إن الحب هو هذه الغريزة الفطرية التي أودعها الله تعالى في سائر المخلوقات، وحين يتم إشباع غريزة الحب بالطريقة المشروعة تجد المخلوق في أوج نضجه، وكامل عطائه، وقمة تفاعله، وتمام اتساقه مع نفسه ومع كل من هم حوله.
إن درجة الحب يختلف تأثيرها باختلاف مصدرها وغايتها ، فحب الله تعالى ورسوله ﷺ للعبد لا يعلوه حب، ويلي ذلك في المرتبة حب الوالدين لأبنائهما، تم تتوالى درجات الحب وأنواعها ومصادرها وأسبابها.سنركز في هذا الموضوع -بفضل الله تعالى- عن نوع من الحب قلما تم الحديث عنه وهذا الحب يمكن أن نسميه (الحب الكامل الدسم)، ألا وهو حب الأب لابنته.
ربما يتساءل إنسان عن سبب اختيار هذا الموضوع تحديداً!
ويتساءل آخر عن سبب تسميته بـ (الكامل الدسم)!
ويقول غيره: هل حب الأب لابنته أقوى من حب الأم لابنتها!!
ويقول رابع: ألا يُعد هذا تفريقاً بين البنين والبنات!
وللإجابة على كل هؤلاء أقول:
إن حب الأب لابنته هو ذلك الحب الذي يغفل عنه كثير من الناس، فالأب ربما لا يستطع أن يعبر عن مدى حبه لابنته بطريقة أو بأخرى بالرغم من أن حبه لها يتغلغل في شغاف قلبه وثنايا عقله وفلذة كبده.
إن حب الأب لابنته هو ذلك الحب الذي لا يعرف الأنانية، ولا ينتظر المُقابل، ولا تلوثه غاية، ولا يعتريه طمع، ولا يحوطه شك ولا ريبة، ولا يصحبه منّ ولا أذى .إن حب الأب لابنته هو خلاصة من المشاعر تغني حتى الاكتفاء، وتشبع حتى الارتواء، ومشحونة بجّل الانفعالات سوى آفة القهر والخذلان!
إن حب الأب لابنته هو ذلك الحب الذي يتسم بالتوازن والتناسق والاتساق فهو ليس كحب الأم الذي ربما يسيطر عليه عاطفة القلب وحدها فتفسده، وربما يسيطر عليه عاطفة الخوف وحدها فتقتله، أو ربما يسيطر عليه عاطفة العقل وحدها فتشوهه وتفقده بهاؤه.
إن حب الأب لابنته هو مزيج من عصارة القلب وحكمة العقل دون أن يطغى أحدهما على الآخر لذا قلنا أن حب الأب كامل الدسم ولا يقل فائدة عن فائدة لبن الأم لوليدها، فلكل دوره وأهميته دون مبالغة ولا اختزال ولا نقصان.
إن حب الأب لابنته لا يُعد تفريقاً بينها وبين إخوتها من البنين حيث إنه حب نوعي يتفق مع كونها الأضعف والأكثر حاجة للشعور بالأمان والاطمئنان، والأكثر حاجة للتحصين مما يُحاك لها ولبنات جنسها من أعداء الأمة ومن أعوان الشيطان.
إن حب الأب لابنته ليس هو هذا الحب التقليدي، ولا هو ذاك الحب الأعمى بل هو الحب البنَّاء الذي ينمو يوماً بعد يوم ويظهر أثره في حُسن تدين ابنته، وحسن معاملاتها وسلوكها وأخلاقها.
إن حب الأب لابنته يكون في جميع مراحل حياتها وفي كل أوقاتها، فالأب يحب ابنته (صغيرة كانت أم كبيرة، حاضرة كانت أم غائبة، صحيحة كانت أم مريضة، حية كانت أم ميتة).
إن حب الأب لابنته يكون في جميع أحوالها وانفعالاتها (طيبة كانت أم شريرة، فرحة كانت أم حزينة، مرحة كانت أم كئيبة)، وهذا هو صمام الأمان الذي يطوقها ما دامت على قيد الحياة.
إن حب الأب لابنته هدفه هو أن يجعل منها إنسانة سوية لا تنال منها صعوبات الحياة ولا تحدياتها لأنها تدرك أن هناك من يرقب خطاها ليوجهها ويشملها بنصحه ويدعمها بكل ما أوتي من قوة مادية كانت أو معنوية وهي تفرح لذلك فلا تتأفف من هذا الصنيع ولا تمله.
إن حب الأب لابنته هو هذا الحب الذي يشبعها ويرويها فيحميها من ذلك الحب الطائش الذي يغريها به السفهاء من الشباب والرجال في مراحل حياتها فلا تستجيب لتغرير من طائش يخفي أنيابه خلف كلامه المعسول، ولا من أهوج يخفي مخالبه خلف وعوده البراقة.
إن حب الأب لابنته هو ذلك الحب الذي يجعل منها طائراً يُحلق في عنان السماء بلا أجنحة، وقلباً مُفعماً بالرضا والقناعة حتى ولو كان هذا القلب يعيش على الكفاف، وشخصية تشعر بالأمان مهما أحاطتها التحديات والصعوبات فتحقق من الآمال أسماها ومن الطموحات أجلها وأعلاها.
إن حب أي رجل دون الأب لا يبلغ مِعشار المِعشار من الحب الأبوي لأن أي حب سوى حب الأب يكاد لا يخلو من غايات متعددة كيفما كانت نية الرجل المُحب.
- فمن الرجال من يحب الأنثى لأنه يخشى أن تخنقه عقارب الزمن وحيداً دونها.
- ومنهم من يحبها لمفاتن جسدها ولجمالها الأخاذ الذي طالما حلم بتملكه.
- وهذا يحبها كي تكون عكازته التي يتوكّأ عليها في دروب الحياة الشّاقة.
- وذاك يحبها لمالها أو لحسبها ونسبها.
- وغيره يحبها ليجد من يمارس عليها سطوته وتسلطه.
- وآخر يحبها لتكون مؤنسته إذا كبر سنه وانحنى ظهره وأكل الزمان على وجهه وشرب.
- أما الذي يحبها لأجل غاية الحب وحدها دون غيرها، فما أندره بين الرجال!
* بعد كل ما سبق حق لنا أن نقول:
إذا كان "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" فإن زينة هذه الزينة هي هذه الابنة الحرة العفيفة الشريفة التقية الورعة التي تعرف لربها حقه فلا تغفل عنه، وتعرف لأهلها حقهم فلا تقصر فيه، وتعرف المهمة التي من أجلها خلقت فتؤديها في مختلف مراحل حياتها دون خلل ولا تفريط.
- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "لا تَكْرَهوا البَناتِ؛ فإنَّهُنَّ المُؤْنِساتُ الغَالِياتُ" (رواه أحمد).
ذكر ابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد" قال: " دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة فقال: من هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب، وريحانة العين وشمامة الأنف، فقال: أمطها عنك، قال: ولم؟! قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعداء، ويورثن الشحناء، ويثرن البغضاء، قال: لا تقل ذلك يا عمرو فو الله ما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الزمان ولا أذهب غبش الأحزان مثلهن، وانفك لواحد خالا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسل بنته، فقال: يا معاوية دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن، وإني لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إليّ منهن" اهـ.، وذكره الثعالبي في كتابه "اللطائف والظرائف" باب "مدح البنات".
إن نعمة وجود الأب في حياة ابنته لا تعوَّض، ودوره لا يُستهان به، ومكانته لا يجب أن ينازعه فيها شخص مهما كان. وصدق من قال: "نعرف قيمة الملح عندما نفقده، وقيمة الأب عندما يموت".
حب النبي ﷺ لابنته فاطمة نموذجاً
1- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأَيْتُ أحدًا كان أشبهَ سمتًا وهَدْيًا ودَلًّا. والهدى والدال، برسولِ اللهِ ﷺ من فاطمةَ كرَّمَ اللهُ وجَهْهَا؛ كانت إذا دخَلَتْ عليه قام إليها، فأخَذَ بيدِها وقبَّلَها وأَجْلَسَها في مجلسِه، وكان إذا دخَلَ عليها قامت إليه، فأَخَذَتْ بيدِه فقَبَّلَتْه وأَجَلَسَتْه في مجلسِها" (سنن أبي داود).
2- عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رَسولَ اللَّهِ ﷺ قال: "فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَن أغْضَبَها أغْضَبَنِي" (صحيح البخاري).
3- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنَّهُ سُئِلَ عن جُرْحِ النبيِّ ﷺ يَومَ أُحُدٍ، فَقالَ: "جُرِحَ وجْهُ النبيِّ ﷺ، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، تَغْسِلُ الدَّمَ وعَلِيٌّ يُمْسِكُ، فَلَمَّا رَأَتْ أنَّ الدَّمَ لا يَزِيدُ إلَّا كَثْرَةً، أخَذَتْ حَصِيرًا فأحْرَقَتْهُ حتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ ألْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ" (صحيح البخاري).
- وهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ: البَيضةُ: الخَوْذةُ.
أخيراً أقول
إذا كان ما سبق هو دور الأب في حياة ابنته فإن هذا الدور لا ينجح ولا يكتمل دون دور الأم الذي يزيل اللبس بينهما، ويوضح الغموض، ويقلل من حدة الانفعالات، ويرد على التساؤلات في العلاقة بين الأب وابنته، والأم بذلك تشعر ابنتها بالأمان والاطمئنان وتخبرها أن الليث يزأر ولكنه لا يلتهم أشباله فزئيره ما هو إلا إنذار لكل من تسوِّل له نفسه الاقتراب من العرين أو النيل من أحد أفراده وتحذير للجميع بأن للعرين أسد يحميه.
إذا كان هذا هو حال الأب والأم مع ابنتهما فإنهما ما ينتظران منها إلا أن تكون معهما هيِّنة لينة مطواعة تعينهما على نفسها بحسن السمع والطاعة والبشاشة والترحاب، فلا يجدان من ابنتهما تأففاً ولا صدوداً ولا تعالياً وكأنها قد بلغت من العلم بدروب الحياة ذروته ولم تعد في حاجة للنصح والإرشاد من أحد فإن كل ذلك منها يطعن الوالدين كطعن الخنجر في سويداء القلب، وهذا الصدود ينغص حياتهما فيشيبا قبل المَشيب بل يموتا في صمت همَّاً وغمَّاً وكمَدَاً، وهذا هو ذروة العقوق الذي يمحق البركة، ويحجب التوفيق، ويُورِّث الجحود، ويُعكِّر صفو الحياة.
اللهم احفظ أهلينا في حياتنا وبعد مماتنا واجزهم عنا خيراً واجزنا عنهم خيراً