لم يَكَدْ يمضي أسبوع على كارثة انفجار بيروت، حتّى فُجِعَ العرب بنكبةٍ جديدةٍ، ولكنها سياسية وفكرية وحضارية هذه المرة. لقد أعلن البيت الأبيض عن الوصول إلى اتفاقية سلام بين الكيان الصهيوني وعضو أصيل في جامعة الدول العربية وفي مجلس التعاون الخليجي: وهي دولة الإمارات العربية المتحدة. وجاء هذا الإعلان مفاجئًا للعالم بأسره، فلم يكن قبل إشهار هذا الأمر قد رشح أي خبر يفيد أن الإمارات وإسرائيل تجريان مفاوضات سلام.
لقد طعنت الإمارات العربية المتحدة الأمتين العربية والإسلامية في الظهر، وقدّم حكّامها برهانًا علنيا ساطعًا في مشهديته ورمزيته على تخليهم عن قضايا العروبة والإسلام، وعلى ارتهانهم للسياسات التي يمليها الصهاينة والأمريكان، والتي تناقض المصالح العربية والإسلامية. إن هذه الاتفاقية، فضلاً عن كونها خيانة صريحة للقضية الفلسطينية (قضية العرب والمسلمين الأولى)، فإنها فضيحة أخلاقية موصوفة باستهانتها بكرامة مئات الملايين من العرب والمسلمين حول العالم، وباستهزائها بمشاعر وشعائر الإسلام.
أما التبريرات التي أعطيت لتلميع صورة هذه الاتفاقية حول العالم، ولتسويقها بين العرب والمسلمين، فإنها من الركاكة والضحالة بمكان، بحيث لا تستحق مجرد الذكر. ولو مهما نشط المثقفون والإعلاميون والكتاب والصحافيون والسياسيون من المؤيدين لهذه الإتفاقية، فإنهم لن يستطيعوا إقناع أصحاب الانتماء الديني والقومي والوطني الصادق بصواب ورجاحة هذا الانبطاح المشبوه للصهاينة. فالخيانة ستظل خيانة ولو مهما حاول الخونة اختلاق الأعذار والتبريرات والمسوّغات.
إنه عصر الانحطاط العربي الشامل وزمن تقهقهر الأخوّة العربية. فأصبح كل قُطْرٍ عربي يغني على ليلاه، حتى راحت إسرائيل تستفرد بكلّ قُطْرٍ على حدة، وتبني بينها وبينه علاقات سرية وعلنية، إلى أن استطاعت الدولة العبرية أن تدك الأسس التي وفقا لها أُنشِأَت جامعة الدول العربية. ولم يعد الكيان الصهيوني بحاجة إلى خوض الحروب والمعارك لتحقيق مآربه، فالسياسة والدبلوماسية قد أنجزتا ما عجزت عنه الترسانات والجيوش.
ويبدو أن حكام الإمارات العربية المتحدة قد قرروا أن ينسوا نهائيا المجازر والجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بشكل متواصل وحثيث منذ نكبة فلسطين وما قبلها. وهم أيضا قد ضربوا صفحا عن كل الانتهاكات والتجاوزات التي يرتكبها بشكل يومي الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين. وما هو أخطر من ذلك كله، ينسى حكام الإمارات أن جوهر الصراع العربي الإسرائيلي هو كونه صراع وجود وليس صراع حدود.
وهكذا تتكرس الهيمنة الصهيونية على العرب يوما بعد يوم، ويعود العرب كما كانوا في الجاهلية قبائل متناحرة ومتصارعة تتقاتل فيما بينها وتقدم ولاء الطاعة للفرس والروم. وكأن العرب لم تكن تنقصهم ويلات ونكبات وكوارث. وكأن الدفاع عما هو حق وخير وجمال قد أصبح اليوم أصعب بما لا يقاس مقارنة بأزمنة أخرى. فالأزمات والصراعات الداخلية (العربية العربية) ترسّخ حالة التشرذم التي يعيشها العرب والمسلمون، مما يخلق الفرصة السانحة لإسرائيل لكي تنشب مخالبها في الجسد العربي الهشّ.
ولا يمكن لأي إنسان عربي ومسلم، صادق في انتمائه وولائه لأمته وعقيدته وقوميته، لا يمكن له أن يرضى، بأي شكل من الأشكال، بتطبيع العلاقات مع العدوّ الألدّ، الذي يعمل على تقويض أسس الأمة العربية من المحيط إلى الخليج وعلى محاربة الإسلام، دينًا وعقيدةً وأمّة، بكل ما أوتي من إمكانيات. ومهما حاول الإماراتيون تزيين خطوتهم المخزية هذه، فإن العار والشنار سيظل يلاحقها، وستظل اتفاقية مشينة ومهينة لكافة العرب والمسلمين.
على المثقفين العرب والمسلمين أن يضطلعوا بدورهم في الرفض القاطع لهذه الاتفاقية. فلا سلام ممكن مع الكيان الصهيوني إلا بالرضوخ لإملاءاته والخضوع لشروطه، وهذا ما تعافه النفوس الأبية التي تحيا بالعز وبالكرامة. فلا بد من تعبئة وتجييش الأقلام والأصوات والحناجر وكافة المنابر لإدانة هذا السقوط العربي الجديد، وللتذكير بأهمية المقاطعة التامة للكيان الصهيوني ورفض أي سلام معه.
إن القضية ليست قضية أرض اغتُصبَت فحسب، وليست قضية أرواح زُهِقَتَ وأملاك صودرت أو دُمّرَت، إن القضية الحقيقية هي القضية الروحانية والفكرية والعقائدية. والحرب الشعواء التي يشنها طغاة الداخل وغزاة الخارج ضد العرب والمسلمين هي حرب تبتغي استئصال العروبة والإسلام من الوجود. لذلك لا مجال للهوادة ولا للتراخي. علينا أن ننصر قضايانا المحقة، فإذا نحن لم ننتصر لها ولم نرفض الباطل حين كان ينبغي أن نرفضه، فإننا هنا نُصابُ في مقتل، ونصبح لقمة سائغة في فم الأعداء. ونرجو من صميم قلبنا أن يعي جيدا العرب والمسلمون الأخطار المحدقة بهم، والا نشهد أي دولة عربية تقتدي بآل خليفة.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- مدونات الجزيرة