الإنسان مخلوق أودع الله به ما من الطبائع والغرائز ما يشده إلى طينيته التي هي مادة خلقه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون} [الحِجر:26]، وتكرم عليه وشرفه بأن نفخ فيه من روحه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحِجر:29] فكان فيه ذلك الجانب الذي يرتقي به ويشده من أوحاله الطينية فيبلغ بذلك مرتبة يفضل بها الملائكة على رأي الجمهور من العلماء، والمؤمن يدرك بأن عبوديته لله جزء من ماهيته لا انفكاك له منها في كل أطواره وأحواله، فإن كان في نعمة الطاعة فمن صدق عبوديته أن يشكر الله على ما هو فيه ويراقب بواعث عمله وصدق نيته وإخلاصه ، وإن كان في غير ذلك قام على نفسه بتعهدها وحملها على ما يرضي الله وتعبد لله في ضعفه كما يتعبد له بقوته وهذا ما قد يغيب عن أذهان الكثير منا، فتجدنا نتكلف ما لا نطيق وننزل الأمور في غير منازلها.
ومن اضطراب النظرة والفهم لهذا تجد من ينظر لنفسه وسائر الصالحين وكأنهم ملائكة لا يحق لهم أن يخطئوا مع أن الشارع قد أبان وأفصح مما لا يجعل مجالا للشك في ذلك، وهو أن البشر خلقوا على ما هم عليه لحكمة ومشيئة ربانية ولو أرادنا كما يريدنا أولئك الذين يرقبون حركاتك وسكناتك وكأنهم رادار يلتقطون به ويحصون عليك أخطاءك وزلاتك وهفواتك لما خلقنا بهذه التركيبة البشرية من الأساس، وانظر وتفكر لصريح لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" (رواه مسلم).
وليس المراد من الحديث الدعوة والتشجيع على الذنوب والمعاصي، وإنما هذا الحديث يوضح طبيعة ما جبلنا عليه من ضعف يوقعنا بالذنوب والزلات ثم ضرورة أن ننظر لعظمة من عصينا وشعورنا بالتقصير في حق الله فنقبل عليه بذل وندم وانكسار نرجو العفو والغفران، وتأمل الحكمة العطائية: "معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً".
ومما نتعثر به في طريق سعينا إلى الله أن تجد المرء يسعد بطاعته وتلمع لها عيناه وينتفخ لها صدره، بل وينظر لمن يتعثرون بالمعاصي والذنوب باستغراب ودهشة واستحقار إذ كيف ممكن أن يخطئ فلان بمثل هذا الخطأ ولا سيما إذا كان هذا المذنب على دراية بالشرع وله مكانته ومركزه، فهو يحمل شهادة شرعية ويعلم ويدرس ويؤم الناس بصلاتهم ومن رواد المسجد ومن إلى ذلك من الحجج التي يجلدون بها المخطئ، وكأنهم ما سمعوا شيئاً من النصوص الشرعية ولا اطلعوا في سِيَر السابقين، بل وقد جهلوا أن اعتراضهم هذا هو اعتراض على الطبيعة البشرية التي خلقها خالقها بهذه الهيئة لحكم جليلة، وأن عجبهم بطاعاتهم إنما هو آفة لا بد من تعهدها بالعلاج وأنه لولا ستر الله وتيسيره للعبد لما تحققت منه طاعة ، ويعلق البوطي على من يتباهى ويستكبر بطاعته قائلا: : "ومما لا شك فيه أن الطاعة التي تورث صاحبها التباهي والاستكبار بها، ليست طاعة إلا من حيث المظهر والشكل، أما من حيث الحقيقة فهي معصية مقنّعة بصورة طاعة".
ومن آفة سعينا في الطريق إلى الله أن يجلد الإنسان نفسه جلداً منافيا لمراد الله إذا ما أخطأ أو أذنب، فيستعظم أن يخطئ مثله وهو على ما هو عليه من مكانة من علوم ومكانة شرعية، وكأنه معصوم عن الخطأ وقد نسي أن من كمال عبودية الإنسان أنه عبد ضعيف يخطئ ويصيب وأن ضعفه هذا إذا صاحبه تذلل واستغفار وأوبة وجثوة على باب مولاه يرجح طاعته التي فخر بها ، فإذا اعترض على ضعفه فعليه أن يعالج نفسه وقلبه من هذه الآفة التي قد تقوده إلى شِباك الشيطان ومصائده فيصيبه إحباط قد يقعده عن العمل برمته أو استكبارا يدخله سوء الأدب مع خالقه.
فأول الطريق وأنت تسير إلى الله أن تدرك بعض الحقائق التي تثبت خطواتك وتحميها من التعثر وتحصنك من مكائد الشيطان ونفسك الأمّارة ومن ذلك:
1. اعترافك بضعفك وتقبلك للطبيعة البشرية التي أودعها الله فيك لقوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (رواه الحاكم في المستدرك)، فإدراك العبد حقيقة ضعفه التي لم ولن ينفك عنها أو منها فلا يعترض أو يتذمر يجعله يتعامل مع تقصيره بحق الله بصورة إيجابية وذلك من خلال إقباله على الله تعالى مستعينا به على ضعفه مستغفرا لتقصيره.
2.أن الله الذي خلقنا على ما نحن عليه فلن يخلقنا بطينيتنا هذه وما فيها من ضعف وقصور ثم يستنكر علينا ضعفنا، بل انظر لكرم مولاك إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده" (رواه مسلم)، فبهذا الضعف ندرك حاجتنا وافتقارنا إلى الله فلا يتكبر الإنسان ولا يعجب بنفسه وعمله وأن دخول الجنة إنما برحمة الله لنا لا بعملنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال لا ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة" (رواه البخاري).
3.ألا يغرك كرم الله وحلمه عليك وإمهاله سبحانه وتعالى لك، فالغفور الرحيم هو نفسه شديد العقاب، ولكن جاهد نفسك وتحرى الطاعة فإن بدر منك خيرا فاحمد واشكر، وإن غير ذلك وهذا لا بد سيكون الزم باب مولاك مستغفرا تائبا إذ يقول تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:110].
4.أن تدرك أن الله تعالى يربي الإنسان بهذه الذنوب فلا يكاد يخلو إنسان من معصية، فقد تكون معصية بالجوارح أو بالهم أو بالغفلة أو من معاصي القلوب كالكبر والحسد والعجب فتوقظه هذه المعاصي من غفلته وسكرته، والمطلوب من الإنسان أن يكون في كل تقلباته وأحواله مستشعرا حاجته وافتقاره لله فيتوجه إليه بذل العبودية ويجاهد نفسه مترفعا عن الذنوب والزلات مستعينا بالله على ذلك مستذكرا قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وإذا ما وجدت نفسك الأمارة أو شيطانك من الإنس والجن يستدرجونك لليأس والقنوط والإحباط من معاصيك تذكر قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
5.ألا ينسى الإنسان أن الفضل والمنة لله ابتداء وانتهاء بأن مكنه من فعل الطاعات واجتناب الآثام والمعاصي فلا يعجب ولا يستعلي ويتأدب بألا يسيء الظن بالناس، فنحن لا نرى إلا ظواهرهم وأما بواطنهم فوحده سبحانه المطلع عليها وما يدرينا فلعل الله غفر لهم زلاتهم وانحرافاتهم لما انطوى عليه باطنه من ذل وندامة وانكسار.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك توبة عبد ظالم لنفسه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا.