في عيد الأضحى نتذكر التضحية في أسمى معانيها، إذ يُضحّي الناس بذبائحهم ليتذكروا بذلك قصة نبي الله إبراهيم عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل الذي أنجبه على كِبر، فيمتثل لأمر الله، فرؤيا الأنبياء حق، ويستشير ابنه في ذلك، فيمتثل الولد كذلك راضيًا صابرًا محتسبًا، ويشحذ الوالد سكينه، ويضعها على رقبة ابنه، في مشهد ضجت له السماوات والأرض، فتنزّلت رحمات الله عليهما، وبعث الله لإبراهيم بذِبح عظيم ليذبحه فداء لابنه.
تضحية الإنسان بولده هي أعلى أنواع التضحية، فليس أحب إلى الإنسان من نفسه إلا ابنه، ولذلك فتضحيته بابنه أعلى من تضحيته بنفسه.
ومن عجيب ما رأينا في زماننا المعاصر، ممثلةً غربية، قامت تنادي في الناس وتزعق فيهم بأن الإسلام دين دموي، ومشهد الذبح للذبائح في عيد الأضحى دالٌ على ذلك.
وما أعجب ما يذهب البعض إليه من آراء تدل إن أحسنا الظن على غباء وجهل، وإن نحن أعملنا الظن بحقه دلنا على حقدٍ للإسلام وكرهٍ له ومحاولةٍ للانتقاص منه بأغبى الطرق وأجهلها.
إذ كيف يَتهم الغربيون الإسلام بالدموية وهم قوم دمويون من أخمص أقدامهم إلى شحمة آذانهم.
وهل سينسى التاريخ للغربيين ما فعلوه بأنفسهم من المذابح والمقاتل في الحربين العالميتين، وفي غيرها من أبشع الحروب والمذابح بينهم.
وفي مسألة الذبح والتضحية في عيد الأضحى، كيف ترى العقول السليمة في ذبح الذبائح دموية، والناس كلها في أقطار الأرض يذبحونها ليل نهار.
وهذه التي تهاجم الإسلام وتدعي دمويته في عيد الأضحى، ألا تأكل اللحم الذي تُذبح ذبائحه في كل وقت وحين، وما دام الذبح يحدث، فما الضير من أن يندب الله لذلك يومًا، يكثر فيه الذبح، ليعطي الغني فيه الفقير، ويطعم الشبعان فيه الجوعان.
أمثال هذه المرأة يدّعون أنهم يرفقون بالحيوان ويبحثون عن حقوقه، وهم كذابون مدعون.
الإسلام يدعو إلى الرفق بالإنسان وإعطائه حقوقه أولًا، حق الفقير على الغني، فيأخذ الإسلام من الغني للفقير حقه مفروضًا في الزكاة ومندوبًا في الصدقة، ثم يجعل يومًا بعد ذلك كأنه عيدٌ لإعطاء الفقير، عيدٌ كأعياد الأم والعمال وغيرها مما اخترعه الناس، وقالوا عند اختراعها إنهم يريدون بأيامها أن يتذكر الناس حقوق الأم والعمال وغيرهما، ليكون ذلك حاثا لهم على تقديرهم وإيفائهم حقهم طوال العام.
وهذا ما يفعله الإسلام في عيد الأضحى، إذ يُذكّر الناس أولًا -عندما يُذكّرهم بقصة إبراهيم وابنه- بالإيمان بالله والتصديق به والالتزام بأوامره إلى حد التضحية بأغلى شيء في سبيله، ويذكّرهم ثانيًا بالفقير إذ يندبهم لإخراج أضحياتهم وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين.
ذبائح تذبح على كل حال، ندب الإسلام إلا أن يذبحها المسلمون بأيديهم وأمام أعينهم في ذلك اليوم تذكيرا بقصة إبراهيم وبالعبرة فيها، ولكي يُوسّعوا على أنفسهم وأولادهم، ويُعطوا الفقراء والمحتاجين.
وعندما يجيئنا عيد الأضحى ليحثنا على التضحية في سبيل الله وعلى تذكّر المثال الأكبر لها في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يجرنا ذلك لتذكّر التضحية الكبيرة التي ضحت بها الحركة الإسلامية في سنواتها الأخيرة من دماء أبنائها وأعمارهم وأموالهم.
الإمام حسن البنا المؤسس والمرشد الأول للحركة الإسلامية عندما وضع أركان البيعة العشرة لأبناء حركته، لم ينس أن يجعل فيها التضحية كركن مهم وأصيل في هذه الأركان؛ فهو -رحمه الله- عندما أسس الحركة وجمع الأتباع من حوله، صارحهم بأن ذلك الطريق طريق له ضريبته التي سيدفعها السائرون فيه من دمائهم وأعمارهم وأموالهم، ولهم بذلك الأجر من الله.
وكيف يتخيل أحد أن يسير في طريقِ مجابهةِ الظلم والظالمين، والوقوفِ في وجه الفساد والمفسدين، وأطر الحكام والسلاطين على الحق المبين، ثم لا يناله الأذى والعنت.
كيف يتخيل أحد أن يسير في طريقِ مجابهةِ الظلم والظالمين، والوقوفِ في وجه الفساد والمفسدين، وأطر الحكام والسلاطين على الحق المبين، ثم لا يناله الأذى والعنت
إن الذي يعمل على أطر الناس على الحق لا بد له أن يستعد للإيذاء والصبر عليه، فكيف بمن ينذر نفسه لأطر الحكام والسلاطين، وهم من هم ظلما وفسادا وطغيانا.
لكن، لنا وقفة هنا مع تضحية أبناء الحركة الإسلامية
أولا/ علينا بأن نقر بأنها أعظم تضحية، إذ أنها تضحية في سبيل الله في أعظم جهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
ثانيا/ هي تضحية لازمة، إذ أن طريق الحركة الإسلامية كما وضعه الإمام البنا -وكما أشرنا سالفا- طريق لا بد فيه من الإيذاء من الظلمة والمفسدين الذين لن يقبلوا بالإذعان للحق الذي سيُذهب عنهم سطوتهم وشهواتهم.
لكن برغم كل ذلك، لا ينبغي على قادة الحركة الإسلامية وأفرادها أن يستسلموا لمعنى التضحية حتى يُقعدهم ذلك عن الاجتهاد والتخطيط من أجل حماية أنفسهم وأموالهم ومشروعهم.
التضحية في سبيل الله هي من أعظم الأعمال إن قدّرها الله تقديرًا حتميًا على المجاهدين في سبيله والداعين لدينه والحافظين لشريعته، بحيث لا يستطيع حينها المجاهدون والداعون والحافظون دفعًا ولا صرفًا.
أما إن كان ثمة فرصة لهم للدفع والصرف، ويقعدون مع ذلك مستسلمين للأذى الذي يلحق بهم، مع الظن بأن ذلك هو التضحية التي يريدها الله منهم ويجازيهم بها، فإنهم حينها مخطئون، بل وأخشى ما يُخشى أن يكونوا آثمين.
يشبه ذلك تمامًا الجهادَ بالسيف في مواطن الجهاد، فعلى الرغم من أن الموت في سبيل الله شهادةٌ توجب الفراديس والجنان ورضا الرحمن، وبرغم أن المجاهدين المخلصين تتوق نفوسهم للموت في سبيل الله في أرض الجهاد، إلا أنهم يقاتلون ويدافعون عدو الله وعدوهم بكل ما يملكونه من قوة، ويخططون لذلك، ويَكِرّون ويَفِرّون، وهذا هو الذي أوجبه الله عليهم.
يقاتلون ويخططون بكل ما أوتوا من قوة، لينتصروا ويَسلموا، مع أن نفوسهم تتوق للموت الذي يكون أعظمُ الأجر عليه.
فإن هم توانوا للحظة عن أخذ الحذر ووضع الخطط واستفراغ القوة والجهد واستسلموا لعدوهم في أرض المعركة ليقتلهم، ليكون موتا في سبيل الله، فإنه لن يكون لهم أجر، بل سيكون الوزر والعقاب.
على المجاهدين المخلصين بالسيف أو بالكلمة أن يعلموا أن مراد الله منهم أن يبلغوا غايتهم القصوى من الجهد والتخطيط للانتصار على عدو الله وعدوهم ليُعزّ الله بهم دينه وشريعته ، فإن تطلب جهادهم تضحية حتمية لا مفر منها فإن عليهم أن يقدموها راضين واثقين بثواب الله ورضوانه، وإن كان لهم مفرٌّ لينجوا بأنفسهم وأموالهم فإن الواجب المفروض عليهم أن يفروا لا أن يستسلموا، على أن يكون فرارهم حينها للاستعداد لكَرّةٍ أخرى، لتكون الدائرة، كرّ وفرّ وكرّ وفرّ، حتى تكون الدولة لهم حينما يأذن الله ويفتح عليهم. الاستسلام للتضحية حين المعركة إثمٌ وخطيئةٌ إن كان هناك ثمة منجى ومفر، وأكبر الإثم حين يستسلم القادة فيُسَلّمون بذلك مَن وراءهم من الجنود والأتباع ليُذبحوا على مذابح الظلم والطغيان بكل سهولة ويسر ، ولو أنهم مكروا قليلا لنجوا جميعا، ولملموا شتاتهم ليكونوا أقدر على العودة حين ينادي المنادي بالعودة.