فن تغييب الوعي واغتصاب العقول (2-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » فن تغييب الوعي واغتصاب العقول (2-2)
mind

إن العقل هو النعمة التي كرَّم الله تعالى بها الإنسان وميَّزه بها عن سائر المخلوقات، ولأهمية العقل وضرورة الحفاظ عليه جعل الله تعالى حفظ العقل من مقاصد الشريعة الخمسة، وهي (الدين، النفس، العقل، النسل، المال)، ولأهمية العقل وضرورة الحفاظ عليه أيضاً حرَّم الله تعالى كل ما يُغيِّب العقل من خمر وكل ما شابهه، ورفع الله تعالى القلم عن المَجنونِ المغلوبِ على عَقلِهِ أو المَعْتُوهِ حتى يَعْقِلَ.

تحدثنا في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:-

- الوعي، أهميته ومجالاته وكيفية بنائه.

- وتحدثنا عن سُبل واستراتيجيات تغييب الوعي.

وفي هذا الجزء سنتحدث بفضل الله تعالى عن:-

ثالثاً: من قصص اغتصاب الساسة للعقول

1- إن أبرز من مارسوا سياسة تغييب الوعي واغتصاب العقول في العصر الحديث هو نابليون بونابرت حيث شارك المصريين أعيادهم القومية مثل عيد "وفاء النيل"، وارتدى العباءة الشرقية، وقام بالتبرع بسخاء لإقامة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، فما كان من المصريين إلا أن أطلقوا عليه لقب (علي بونابرت)، كما ذكر الجبرتي وغيره.

2- يُحكى أنه في العاصمة الهندية نيودلهي كان سفير بريطانيا يمر بسيارته مع قنصل مملكته وفجأة رأى شاباً هندياً جامعياً يركل بقرة..
أمر السفير البريطاني سائقه بأن يتوقف وترجّل من السيارة مُسرعاً نحو البقرة "المُقدسة" يدفع عنها الشاب صارخاً في وجهه ويمسح على جسدها طالباً الصفح والمغفرة وسط دهشة المارة الذين تجمعوا بعد سماع صراخ السفير البريطاني.

وفوجئ الحضور أن السفير البريطاني يأخذ من بول البقرة ويمسح ببولها وجهه، فما كان من المارة الا أن سجدوا تقديراً لربّهم "البقرة"، ذلك الربُّ الذي نصره السفير البريطاني، وتوجهوا بعد ذلك إلى الشاب الذي ركل البقرة وأوسعوه ضرباً أمام البقرة انتقاماً لقدسية مقامها ورفعة جلالها.

عاد السفير بقميصه المُبلل بالبول وشعره المنثور ليركب سيارة السفارة الى جانب القنصل الذي بادره السؤال عن سبب ما فعله وهل هو مقتنع حقا بعقيدة عبادة البقر؟؟

أجابه السفير: أي بقرة يا عزيزي! هل نسيت أننا تناولنا على الغداء لحم بقرة ..؟؟

اسمع.. إن ركلة الشاب للبقرة هي صحوة وركلة للعقيدة المغلوطة التي نريدها، ولو سمحنا للهنود بركل العقائد المغلوطة كما فعل الشاب لتقدمت الهند خمسين عاماً إلى الأمام، وحينها سنخسر وجودنا ومصالحنا الحيوية، فواجبنا الوظيفي هنا هو ألا نسمح بذلك أبداً لأننا نُدرك بأن الجهل والخرافة وسفاهة العقيدة هم جيوشنا في تسخير المجتمعات!!

إن هذه القصة تعبر عن وجه من وجوه فن اغتصاب العقول الذي يهدف إلى بقاء مئات بل آلاف البقر تتصدر المشهد في كافة المجالات دون أن يناقشهم أحد، وجعلهم تابوهات مُقدسة من يخرج عن رأيهم فهو آثم يستحق التنكيل والطرد والإبعاد.

رابعاً: دور الإعلام في تغييب وعي الرأي العام

إن الذراع الذي لا يستغني عنه أي نظام وخاصة النظم المستبدة هو الذراع الإعلامي.

إن الذراع الإعلامي يقوم بدور السحرة الذين يسحرون أعين الناس ويسترهبونهم لذلك تجد أن أول ما يسعى إليه أي نظام مُستبد هو امتلاك منظومة إعلامية قادرة على تغييب وعي الجماهير وإضلالهم من حيث لا يشعرون.

إن الآلة الإعلامية المُضللة لديها القدرة على إقناع الجماهير بأنه لا فرق بين المسيخ الدجال والمسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
إن الآلة الإعلامية المضللة من شأنها الترويج للاستراتيجيات التي تستخدمها الأنظمة المستبدة من أجل ترويض الشعوب، وتدجين الجماهير، وجعلهم مطية ذلولة الظهر لا تشتكي ولا تتمرد ولا تثور.

إن الذراع الإعلامي يقوم بدور السحرة الذين يسحرون أعين الناس ويسترهبونهم لذلك تجد أن أول ما يسعى إليه أي نظام مُستبد هو امتلاك منظومة إعلامية قادرة على تغييب وعي الجماهير وإضلالهم من حيث لا يشعرون

وذلك يكون من خلال الوسائل التالية:-

1- بث الخوف والذعر لدى الرأي العام وإقناعه في كل لحظة أن طبول الحرب تدق وأن هناك خطر داهم يوشك أن يقرع الأبواب.

2- تكريس الهجوم على الشخصيات الناجحة والرموز المتحررة التي لا ترضى الظلم ولا تقبل العيش في كنفه، وتصوير هؤلاء على أنهم لا يفهمون إلا في تخصصاتهم، وأنهم لا شأن لهم بالسياسة وأنهم إذا تدخلوا في الشأن العام أفسدوه.

3- استغلال جهل الجماهير في تزييف الحقائق التاريخية بل والثوابت الدينية، بما يتناسب مع سياسة الأنظمة وذلك يكون إما بتسليط الضوء على جانب دون آخر، أو بالتشكيك في صحة جانب وتكذيب آخر، أو طمس الجوانب المشرقة التي تهدد وجود الأنظمة.

4- ممارسة سياسة انتقاء الخصوم وافتعال المعارك والأزمات وإدارتها بأسلوب يقنع الجمهور بأن هناك حرية وديمقراطية، والأمر في مجمله ما هو إلا أدوار سبق الاتفاق عليها بطريقة مسرحية عبثية لا تنطلي على أصحاب العقول والرؤى.

5- اتباع سياسة شيطنة وإقصاء الخصوم الحقيقيين، وتأليب الرأي العام عليهم، وحرمانهم من أي فرصة للتواصل مع الجمهور.

6- قيام كل المنصات الإعلامية بالعمل على هدف واحد في وقت واحد، وهنا قد يقوم رجل الدين بنفس الدور الذي يقوم به القواد أو العاهرة مع اختلاف الأساليب والحيل .

7- تشكيل الخريطة الإعلامية بطريقة تعظِّم من دور الفن على حساب دور الدين، وتعظم من دور العلم على حساب دور الإيمان، واستبدال كل ما هو هادف ليحل محله كل ما هو هابط.

8- الترويج للمفاهيم المغلوطة والتلاعب بالألفاظ، فمثلاً لو قام مُعلم بتصرف غير مسئول وكان توجه النظام هو النيل من طبقة المعلمين، تنبري كل الأقلام وتتفرغ كل الأبواق للتفتيش في ماضي الطبقة بكاملها لشيطنتها وفض الناس عنها بحجة أن السيئة تعم، وإذا صدر نفس السلوك من شخص من طبقة محسوبة على النظام تجد أن نفس الأقلام ونفس الأبواق تروج لفكرة أن هذا تصرف فردي لا يجب القياس عليه ولا تعميمه.

9- إفساح الساحة الإعلامية للقدوات التافهة من كل طبقة ومن كل تخصص ومن كل الأعمار، وتقديمهم على أنهم النخبة التي يجب أن يُسمع لها، والقدوة التي يجب أن يقتدي بها الجميع.

10- التغاضي والتبرير والتستر على أخطاء النظام، وإظهاره دائماً بالدور البطولي الذي إذا سقط ستسقط معه كل أركان الدولة وسيكون الوطن والشعب مستباحاً لغيره من الدول والشعوب.

إن كل ما سبق جعل وزير الإعلام الألماني جوزيف جوبلز يقول: (أعطني إعلاماً بلا ضمير أعطك شعباً بلا وعي).

خامساً: نموذجاً من نماذج تغييب الفن للوعي واغتصابه للعقول

في قصة فيلم غرق السفينة تيتانيك غرق معظم من على السفينة، وبالرغم من أن معظم الغرقى كانوا من النساء والأطفال وكبار السن إلا أن حبكة الأحداث التي قام بها المخرج جعلت تعاطف المشاهدين مع بطل الفيلم أكثر بكثير من تعاطفهم مع غيره بالرغم من كونه (لص وعربيد ومُدمن خمر ولاعب قمار)!!

هكذا يتلاعب الإعلام بالعقول ويجعل المشاهد يرى ما يريده المخرج، ويتأثر المشاهد وينفعل، وينفطر قلبه من البكاء لأن المخرج استخدم من المؤثرات الصوتية والضوئية والتصويرية ما يجعله يلعب بعقول وقلوب ومشاعر المشاهدين كما يلعب الصبيان بالكرة.

سادساً: إضاءات على طريق بناء الوعي

1- إن بناء الوعي الجمعي لابد أن يبدأ ببناء الإنسان لذاته أولاً، وذلك يكون بأن يطرح الإنسان على نفسه مجموعة من الأسئلة، مثل:-
(من أنا؟، وماذا أريد؟ وما هي الإمكانيات والفرص التي لدي لتحقيق ما أريد؟ وكيف أستثمرها؟، وما هي التحديات التي تحول دون تحقيق ما أريد؟ وكيف أتغلب عليها؟ وما هي الضوابط الواجب اتباعها أثناء السير لتحقيق الهدف؟، وما هي الفترة الزمنية التي أحتاجها لتحقيق ما أريد؟ ... وغير ذلك من الأسئلة، حسب حجم الهدف وسُمُو الطموح).

2- إن قدرة الفرد على مواجهة نفسه ومصارحتها وتحديد أولوياتها، وقدرته أيضاً على التفكير المنطقي والواقعي، هما السبيل لتحقيق الهدف المنشود .

3- إن بناء الوعي لابد وأن يكون عملية تراكمية ممتدة تتوارثها الأجيال وتبني عليها جيل بعد جيل، ولا يجب أن يترك الأمر للأجيال فيهدم كل جيل ما قام ببنائه من سبقوه.

4- إن بناء الوعي لا يعترف بأنصاف الحلول، ولا يقبل بالبقاء في المنطقة الرمادية، ولا يمسك بالعصا من المنتصف، لأنه لا يمسك العصا من المنتصف إلا من يستعد للرقص !

5- إن الوعي الناقص أكثر خطورة من اللاوعي لأن صاحب الوعي الناقص يعرف الطريق ويتعمد تنكبه، ويعرف مصدر النور ويتلاشاه، ويعرف الطريق للخروج من النفق المظلم ويتجنبه.

إن الوعي الناقص أكثر خطورة من اللاوعي لأن صاحب الوعي الناقص يعرف الطريق ويتعمد تنكبه، ويعرف مصدر النور ويتلاشاه، ويعرف الطريق للخروج من النفق المظلم ويتجنبه

6- إن بناء وعي الشعوب بعد تجهيلها وتضليلها ليس بالأمر السهل فهو يحتاج الى صقل الوعي الفردي للقائمين على هذا الأمر، كما يتطلب عزيمة صادقة وعملاً متواصلاً وتضحية عزيزة وأملاً لا ينقطع.

7- إن من يحاول أن يبني وعي الشعوب بعد تجهيلها وتضليلها كمن يحاول تجفيف مستنقع مليء بالأمراض والأوبئة ليحل محل هذا المستنقع بحيرة تغذيها شلالات وقنوات بالماء العذب الزلال، وهذا أمر لو يعلمون عظيم.

8- على من يتصدى لقضية تغيير الوعي أن يوقن أنه سيواجه مقاومة شرسة، وستستخدم ضده كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لإثنائه عن قضيته، فالخفافيش من عادتها أن تكره النور، والخنازير لا تقوى أبداً على مُفارقة القاذورات.

9- إن الطليعة الواعية هي همزة الوصل بين النظام الحاكم والرأي العام للمجتمع، تنقل آماله بدقة، وتعبر عن آلامه بموضوعية، وتتحدث بلسان حاله بفصيح اللسان ووضوح البيان، دون تملق ولا استجداء ولا مداهنة، ودون قابلية للاستقطاب ولا الاستدراج ولا الإغراء، ودون خيانة لطرف على حساب آخر، فالرَّائدُ لا يكذبُ أهلَه ولا يغُشُّ نفسَه.

10- إن الطليعة الواعية هي صمام الأمان للمجتمع، يرى المجتمع من خلالها ما يحدث في العالم من مُجريات وأحداث، ومن خلال ذلك يُحدد المجتمع مصيره، ويبني أحلامه، ويستعد نفسياً للتضحية من أجل تحقيقها.

تلك عشرة كاملة، بها وبغيرها يكون المجتمع قد وضع قدميه على أرض صلبة، ويكون عصياً على التجهيل والتضليل، ولا يقبل لنفسه أبداً أن يكون لقمة سائغها يلوكها كل نَهِم طامع.

وأخيراً أقول:

إن سياسة تغييب الوعي واغتصاب العقول تفرض على المجتمع سياسة الأمر الواقع وتجبره على التعايش معها، كما تهدف إلى تقويض أي فكرة أو محاولة من شأنها إيقاظ الوعي والخروج بالمجتمع من المستنقع الآسن الذي يعج بالجهل والضلال والتضليل.

وإن دور الطليعة الواعية المخلصة هو أن تفضح كل حيل وألاعيب من شأنها تغييب الوعي واغتصاب العقول ، كما أن من صميم دور الطليعة الواعية المخلصة أن يكون لها خطتها المستقلة التي تهدف إلى الرقي بوعي المجتمع وانتشاله من المستنقع الآسن، حتى لا تكون تصرفات الطليعة الواعية مجرد ردود أفعال لممارسات الأنظمة المستبدة، وحتى لا تستخدمها الأنظمة لتحقيق بعض أهدافها وهي لا تدري.

وأقول:

إن الجماهير الواعية لا تسمح لنفسها أن تكون الاختيار الأخير للنظام الحاكم، ولا أن تكون مُهمشة كالهمزة، ولا منسية كعلامات الترقيم، ولا تبنى للمجهول إلا تقديراً وتفرداً، وتقبل الموت ولا تقبل أن تكون نكرة.

إن هذا كله لا يكون بعنترية جوفاء ولا بتصرفات حمقاء هوجاء بل بمعرفة للذات، ووعي يستعصي على التغييب، وبحسن تقدير للأمور، وبقراءة المشهد من كل جوانبه وكل أطرافه ومآلاته.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إذا طال حلم الله… فانتظروا الغضبة الكبرى!

في حياتنا البشرية، إذا ما تعرّض أحدنا لضغط كبير، فإن تنفيسه عن هذا الغضب في …