كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء

الرئيسية » بأقلامكم » كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء
ss-10-10-1

عندما أرى بعيني حجم التزييف الذي يطال أهل الحق في كل يوم و أعاصر هذا الكذب البواح و التلفيق الكبير للأحداث الجسام المتسارعة أطرح على نفسي في كل ساعة سؤال ثقة حول التاريخ المكتوب برمته، فإذا كان الواقع يزيف بهذا الشكل المخيف فكيف سنثق بالتاريخ الذي يكتبه في العادة المنتصرون و يضيع فيه الوجه الاخر للرواية؟ ألم يقل البطل القومي الفلبيني خوسيه ريزال: "كل شخص يكتب التاريخ حسبما يناسبه".

هل ما نقرأ اليوم في كتب التاريخ يعكس الصورة الحقيقية لما جرى بالفعل في فترات معينة من تاريخنا الاسلامي؟ أم أن ثروات ضخمة صرفت من قبيل شراء الذمم و الأقلام واختلاق أحداث وهمية لقلب الأنظار عن الحقيقة؟ يقول الدكتور علي الصلابي: "لقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر و غيرهما بمثل هذه الاباطيل و الأكاذيب، مما يتطلب تحقيقا علميا لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ".

من يرى كيف يتم عرض ثورات الشعوب العربية بوجه الظلم و الطغيان و العمالة و الخيانة على أنه تمرد عصابة إرهابية دبّر من أيدي خفية لزعزعة الاستقرار و الأمن في البلاد العربية التي كانت تنعم بالهناء و السعادة و الديمقراطية و رغد العيش على حد زعمهم، يدرك بام عينه حجم التزوير الكبير و الهائل الذي يمكن أن يصيب التاريخ.

لقد كتب أحد الفضلاء: "لولا الأزمات لبقينا مخدوعين بصوت السديس وأناشيد العفاسي ودموع المغامسي ولسان عمرو_خالد. لولا المحن لظل عائض_القرني في نظر الناس مثل سلمان_العودة ولظل وسيم_يوسف مثل خالد_الراشد. لولا الرياح العاتية لبقيت الأوراق الصفراء بجانب الخضراء تدّعي الجمال والثبات".

من تجربتنا اليومية نعي أنه تظل قضية الثقة العمياء بالتاريخ أقرب إلى الاستحالة منها للواقع، ومع ذلك يبقى شيء من الحقيقة لا يمكن تزويره و يحتاج ادراكه قبل البصر إلى بصيرة، وهذا المعنى أشارت اليه زينب بنت علي عليها السلام ليزيد وسط ملكه و جنده فقالت: "فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا".

في العاشر من محرم من كل عام تمر علينا ثورة الحسين عليه السلام مرور الكرام وسط صمت مطبق وبدون أي فعاليات تذكر، و مما زاد مرارة الصمت هذا العام هو مطالعتي لكتاب "مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ" لجهاد الترباني والذي أهدي إلي على أنه أكثر الكتب مبيعا في عالمنا العربي، حيث ذكر من هؤلاء العظماء "يزيد بن معاوية" و تغافل عن ذكر الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه و سلم.

إن فكرة أن هذا الكتاب يعد من أكثر الكتب مبيعا في عالمنا العربي أحبطني و آلمني لأنه أعاد إلي مرارة تقصيرنا كأفراد، و تقصير الدعاة وتقصير الحركات الإصلاحية في عالمنا العربي عبر التاريخ بحق الحسين عليه السلام و ثورته المباركة ضد حكم الملك العاض والذي يمثل الانحراف الأول عن منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم و الخلفاء الراشدين الخمسة في الحكم.

إن تقصيرنا كأفراد بحق الحسين خطأ كبير ولكن تقصير الحركات الإصلاحية بهذا الحق شرحا و دفاعا وتوجيها هو خطيئة دفعت ثمنها الحركات الاسلامية التصحيحية بما نالته على أيدي أشباه يزيد و أشباه علماء بلاط يزيد الذي أفتوا في هذه الايام على لسان الشيخ السعودي البارز عبد العزيز الريس المدخلي مدعي السلفية زورا و بهتانا، تحريم الخروج عن طاعة الحاكم، حتى إن "خرج على الهواء مباشرة يزني ويشرب الخمر لمدة نصف ساعة يوميًا؟ ومفتي مصر السابق علي جمعه الذي قال في خطبته للجيش والشرطة المصرية قبل فض رابعة بحضور السيسي، القائد العام وزير الدفاع والإنتاج الحربي، وقيادات القوات المسلحة، ووزير الداخلية محمد إبراهيم وقيادات الشرطة. “اصبروا واثبتوا فالله مؤيدكم واعلموا أنكم على الحق ولا يعوقن أحد طريقكم التي بدأتموه، أنتم تسيرون في طريق الله.... طوبى لمن قتلهم وقتلوه، مشيرا إلى أن القتال، هو عمل الفرسان أما رافضي الانقلاب، هم أهل القتل الأوباش”.

عبر التاريخ حكمت الناس فئتان مختلفتان (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ)، فالذين يجنحون إلى الدنيا ينكرون على أهل الاخرة نصرتهم للحق و يعتبرون هذه الثورات زعزعة للنظام و الأمن العام و الاستقرار و إخلالا بالسلم الأهلي وهو التفسير الحديث للمصطلح القديم "الفتنة الكبرى".

بينما أهل الاخرة يعرفون أن الثورة ضد الظلم و الدفاع عن المظلومين أهم من كل المنافع الدنيوية و الاستقرار المفروض بقوة القهر، و”إنَّ الظالمَ يَظْلِمُ، فيُبتَلَى الناسُ بفتنةٍ تُصيبُ مَن لم يَظْلِم، فيعجز عن ردِّها حينئذ. بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً؛ فإنه كان يزول سببُ الفتنة.” (ابن تيمية، منهاج السنة، 3/ 323). و”الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً”. (الكواكبي، طبائع الاستبداد، 180).

لقد أدرك الحسين عليه السلام أن التنازل عن الشرعية التي يمثلها الخليفة الراشد الخامس الحسن لمعاوية عام الجماعة لن يؤدي إلى استعادة الخلافة الراشدة كما تعهد معاوية بن سفيان بل سيؤدي إلى التحول إلى الملك العاض الذي يتأسس على الوراثة و الغلبة و لذلك رفض هذا التنازل من الحسن عليه السلام حتى قال له أخوه الحسن غاضبا "والله لقد هممت أن أسجنك في بيت من طين عليه بابه، حتى أقضي بشأني هذا و أفرغ منه ثم أخرجك".

منذ تلك المقابلة لم يراجع الحسين أخاه الحسن ووفى بعهد أخيه الحسن لمعاوية حتى آخر لحظة، فلقد تنازل الحسن عليه السلام لمعاوية عام 41 هـ و بقي معاوية في الحكم حتى وفاته في عام 60 هـ، التزم فيها الحسين عهده ولم يقم بأي ثورة ضده خلال 20 عاما من حكمه.

لما وشى بعض العمال لمعاوية أن الحسين يريد الثورة عليه و يريد إشعال "الفتنة الكبرى" بالتعاون مع أهل العراق، أرسل معاوية يسأله وهو يعلم أنه لن يكذب عليه، أجاب الحسين فقال: (أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير، والحسنات لا يهدي لها إلا الله، وما أردت لك محاربة، ولا عليك خلافا، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة).

لم يخرج الحسين على معاوية و لم يعلن الثورة عليه و لكنه خرج فقط بعد وفاة معاوية و تسليمه السلطة قسرا لابنه يزيد، فقبل وفاة معاوية عمل على أخذ البيعة خلال حياته لابنه يزيد وكان يعلم أن لا شرعية لهذه البيعة إلا اذا بايع أهل مكة و المدينة و بالأخص الحسين عليه السلام و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر و آخرون من الصحابة.

عندما عجز سعيد بن العاص والي معاوية على مكة عن إقناع الصحابة بهذه البيعة، جاء معاوية بنفسه إلى مكة ومعه الجند و المال، فجمع وجهاء مكة في المسجد و فاوضهم على مبايعة يزيد، فأجابه عبد الله بن الزبير وخيره بين ثلاث:

إما أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحدا.

أو يصنع كما صنع أبو بكر إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه (قومه)

أو يصنع كما صنع عمر، إذ جعل الأمر شورى في ستة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.

فلم يرض معاوية بذلك وأمر رئيس الحرس بأن يوقف على رأس كل واحد من وجهاء مكة رجلين مسلحين بسيفين و أمرهما بقطع رأس كل من يعترض على ما يقوله، ثم دعى عامة الناس ووقف على المنبر وقال لهم إن هؤلاء وأشار إلى وجهاء مكة قد بايعوا يزيد فبايع عامة الناس يزيد.

آل الامر إلى يزيد سنة 60 هـ بعد وفاة معاوية دون أن يبايعه الحسين عليه السلام و عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر إمام عامة الناس فأرسل إلى عامله بالمدينة الوليد بن عتبة "أن خذ حسينا، وعبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير، بالبيعة أخذا شديدا ليست في رخصة حتى يبايعوا و السلام".

إجتمع الوليد مع الحسين عليه السلام و معه مواليه و طالبه ببيعة يزيد فأجابه الحسين عليه السلام: "أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر و تنظرون أينا أحق بالبيعة والخلافة، ثم خرج عليه السلام."

كعادة الحسين عليه السلام كان واضحا صريحا شفافا لا يساوم و لا يداري في الحق كيف لا و هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم: «حسين مني وأنا من حسين، اللهم أحِبَّ من أحَبَّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط». وقال فيه ايضا: «هما رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدنيا. يعني الحسنَ والحسينَ». وقال أيضا: «الحسن والحسين سيدا شبابِ أهلِ الجنةِ».

خرج الحسين من المدينة إلى مكة و لم يبايع يزيداً و أسباب خروجه كما ذكرها الحسين عليه السلام في وصيته لاخيه محمد بن الحنفية:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبى طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي على بن أبى طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد على هذا أصبر حتى يقضي الله بينى وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب. ثم طوى الحسين الكتاب وختمه بخاتمه ودفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه وخرج في جوف الليل.

يقول الدكتور الصلابي: "وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة، وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، وبنى الحسين -رضي الله عنه- فتواه بتسلسل منطقي شرعي، فاستبداد بني أمية، والشك في كفاءة وعدالة يزيد، توجب عدم البيعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة، ومن أكبر المنكر حكم بني أمية واستبدادهم.

وبما أن الحسين ليس في عنقه بيعة، وهو أحد علماء الأمة وسادتها، فهو أحق الناس بتغيير هذا المنكر، وعلى ذلك فليس موقفه خروجاً على الإمام، بل هو تغيير المنكر، ومقاومة للباطل، وإعادة الحكم إلى مساره الإسلامي الصحيح، ومما يدل على حرص الحسين -رضي الله عنه- على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتُستحل بي."

لقد أدرك يزيد أن لا شرعية لحكمه إذا لم يعطِ الحسين البيعة له لذلك طلب من واليه الوليد أن يجبر الحسين إجبارا و طلب مروان بن الحكم بن الوليد أن يفعل ذلك حتى لو أدى إلى مقتل الحسين فأنكر الوليد على مروان بن الحكم لجاجته و قال له: "أتشير علي بقتل الحسين! والله إن الذي يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله".

و أدرك الحسين أن يزيد لن يتركه دون أن يبايعه حتى لو أدى ذلك لقتله فقال لأخيه محمد ابن الحنفية: "ولو دَخَلتُ فِي حِجرِ هَامَة مِن هَذِهِ الهوَام لاستَخْرَجُونِي حتَّى يَقتُلُونِي." فيزيد يطالب بشرعية لحكمه و يأبى الحسين أن يعطيه إياها.

خرج الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكة و مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق، فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة: 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، وفي هذه الفترة كان -رضي الله عنه- يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لا بد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه لأن أهل العراق قد أقاموا الحجة عليه بسبب تواتر الوفود من اهل الكوفة التي كانت تحمله المسؤولية امام الله إن لم يستجب لدعوتهم الملحة لمقاومة يزيد.

لقد انقسم الصحابة والتابعين من خروج الحسين عليه السلام إلى ثلاثة أقسام:

  • القسم الأول: لم يخطئه في الخروج وعدم البيعة ولكن أشار عليه الانتظار و اعتماد خطة أخرى غير الذي اعتمدها من السفر إلى العراق وهم اخوه محمد بن الحنفية، عبد الله بن العباس الذي أشار إليه بالمسير إلى اليمن، و عبد الله بن الزبير الذي أشار اليه بالبقاء في مكة، وهؤلاء لم يخالفوا الحسين في الناحية الشرعية و لكن كان خلافهم مع الحسين في الخطة المعتمدة. فهو ليس خلافاً في الاستراتيجية و لكن في التكتيك المعتمد.
  • القسم الثاني: عبد الله بن عمر الذي أشار على الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة و انتظار ما سيفعله عامة الناس وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذَّا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان، وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس؛ فإن الجماعة خير.
  • القسم الثالث: نظروا للعمل الذي يقوم به الحسين على أنه خروج على الإمام صاحب البيعة وهم أبوسعيد الخدري، جابر بن عبد الله، عبد الله بن جعفر، أبو واقد الليثي، عمرة بن عبدالرحمن، ابوبكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عبد الله بن مطيع، سعيد بن المسيب، عمر بن سعيد بن العاص.

أرسل الحسين عليه السلام ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليستطلع له الأمر ووصل اليها و لجأ إلى مناصريه هناك و اجتمع عليه الناس و بايعه جمع غفير يصل في بعض الأقوال إلى 15 الف، وكان النعمان بن بشير والي معاوية على الكوفة فرفض استخدام الشدة والبطش مع مسلم بن عقيل مما أغضب يزيد و عزله و عين مكانه واليه على البصرة عبيد الله بن زياد وأرسل له خطابا قال فيه: "إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليَّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع؛ ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه، أو تقتله أو تنفيه، والسلام."

استطاع عبيدالله بن زياد أن يخذل عن مسلم بن عقيل مبايعينه حتى بقي وحده فاعتقله جنده و ساقوه إلى قصره فقال له عبد الله بن زياد: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصِ، فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارِها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً، فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يُردْنا ولا نردُّه، وإن أرادنا لم نكفَّ عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله، ويقول: اللهم، احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.

واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء بن عروة الذي أجار مسلم بن عقيل فأخرج إلى السوق، وقتل، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً.

خرج الحسين - رضي الله عنه - من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، ولما بلغ الحسين زبالة، وقيل شراف جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف، فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً، فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، وعند أشراف تلاقت طلائع جيش عبيد الله بن زياد و عليها الحر بن زياد التميمي و معه ألف فارس، وحرص الحر بن زياد التميمي أن يبعد الحسين عن الكوفة دون أن يبدأه بقتال. فسار الفريقين حتى وصلا إلى كربلاء وكان خلال مسيرهما يؤذن للصلاة و يصلي الحسين بهم جميعا بناء على طلب الحر بن زياد التميمي.

و أقبل الحسين يعظهم فقال: أما بعد فقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قال في حياته: "من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله" وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم بي أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم، فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم والسلام.

لما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل، كانت معده لحرب الديلم إلا أن عبيد الله بن زياد طلب أن يقاتل الحسين أولا ثم يتفرغ لقتال الديلم.

في بداية الامر رفض عمر بن سعد الخروج لمقاتلة الحسين وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته –حمزة بن المغيرة بن شعبة- : أنشدك الله يا خال، أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها -لو كان لك-، خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين.

فمال عمر بن سعد إلى عدم الخروج إلا أن تهديد عبيد الله بن زياد له بمنعه من إمارة الري وهي درة التاج في ملك الأكاسرة دفعه إلى مخالفة ناصحيه جميعا فلقد ملكت الدنيا قلبه. فخرج لملاقاة الحسين عليه السلام.

حاصر جيش عبيد الله بن زياد بقيادة عمر بن سعد الحسين و معه خمسة ألاف فارس و مقاتل و بدأت المفاوضات بين الحسين بن علي و عمر بن سعد فقال له الحسين أنه جاء بناء على طلب أهل الكوفة و أراه رسائلهم.

وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم.

فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر: الآن إذا علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولاة حين مناص؟

ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام.

يجيب الإمام الحسين: "ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وكثرة العدوّ وخذلان الناصر".

في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين -رضي الله عنه- أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي -بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين-، وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه.

بدأت المعركة سريعا و قاتل الحسين وأهله قتالا استشهاديا، بينما كان جيش عمر يفر من قتال الحسين فلا يريد أحد منهم أن يبوء بذلك الاثم، عندئذ خشي شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور، فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي، ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقادة الحيني، ويقال أن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي، وكان قتله -رضي الله عنه- في محرم في العاشر منه سنة إحدى وستين.

وكان الذين قتلوا مع الحسين - رضي الله عنه - من آل أبي طالب،

  • فمن أولاد علي بن أبي طالب: الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان،
  • ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير علي زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله،
  • ومن أبناء الحسن: قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر،
  • ومن أولاد عقيل: قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن، ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبد الله بن مسلم،
  • ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد،
  • ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة.

تتعدد الروايات و تختلف فيما حصل في المعركة و بعدها من رزايا و فظائع وسواء صحت تلك الروايات أم لم تصح فجميعها تفصيل مقارنة بقتل الحسين عليه السلام و جز رأسه و حمله إلى عبيد الله بن زياد ثم إلى يزيد بن معاوية. خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت عائشة، فمر على بيت فاطمة، فسمع حسينا يبكي، فقال: "ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟". رواه الطبراني، وإسناده منقطع. إن كان بكاء الحسين يؤذي رسول الله فما بالك بقتله و جز رأسه وعدم دفنه و السير به من كربلاء إلى الكوفة إلى دمشق.

إن قتل النفس المعصومة كبيرة من كبائر الذنوب، وجريمة من أعظم الجرائم، فكيف إذا كانت النفس المقتولة مع عصمتها مؤمنة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و معها 18 عشر رجلا كلهم من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذلك أعظم جرمًا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. وكذلك الإعانة على قتل النفس المعصومة جريمة ومنكر عظيم سواء كان بالتحريض أو الإعانة أو الدلالة أو المشاركة بالمال أو الفعل، فمن قتل الحسين و معه ثمانية عشر رجلا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم.

مما لا شك فيه أن قتلة الحسين هم: أهل الكوفة الذين غدروا و تخلوا، عبيد الله بن زياد والي يزيد على البصرة و الكوفة، عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش، يزيد بن معاوية.

يقول الدكتور علي الصلابي: " إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين –رضي الله عنه– قائمة، كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه؟، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– يحمِّل نفسه مسؤولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام، لم يسوِّ لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين؟ إن مقتل الحسين –رضي الله عنه– سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

لقد علم يزيد أن لا شرعية لحكمه و لا استمرار لحكم بني أمية إذا لم يبايع الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر، بينما آمن الحسين بن علي أن بيعة يزيد هي هدم للدين، لذلك لم يكن هناك من مكان للحلول الوسط بين الحسين بن علي و يزيد بن معاوية.

لقد ظن يزيد أن قتل الحسين سيضمن له استقرار حكمه و استقرار حكم بني امية من بعده ولكن الذي حصل أن دم الحسين، أثار حمية النفوس الزكية الطاهرة فقامت الثورات المتعاقبة بوجه الدولة الاموية حتى أسقطتها بعد 60 عاما من استشهاد الحسين، فلقد استمرت الدولة الاموية 92 عاما فقط (41 - 132 هـ)، بينما استمرت الدولة العباسية 767 عاما و الدولة العثمانية ما يقارب 600 عام و الدولة الأموية في الاندلس 284 عاما قبل أن تتحول إلى ممالك كثيرة.

وأهم الثورات التي قامت بوجه الدولة الاموية:

  • 61 هـ: ثورة الحسين بن علي ضد يزيد بن معاوية
  • 63 هـ: ثورة أهل المدينة على يزيد بن معاوية و تسمى ثورة الحرة و كانت بقيادة عبد الله بن مطيع العدوي اميرا على المهاجرين و عبد الله بن حنظلة الانصاري اميرا على الانصار وذلك بعد ان شهد وفد منهم برئاسة ابن مطيع على يزيد بانه "يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب"
  • 64 هـ: ثورة عبد الله بن الزبير و حصار الأموين لمكة المكرمة لاكثر من 64 يومًا ونصبوا المنجنيق واحترقت الكعبة، ولم يفك الحصار الا ان جاء نعي يزيد بن معاوية. واعلن عبد الله بن الزبير نفسه خليفة و سيطر على معظم اراضي الحجاز و العراق و اليمن باستثناء الشام التي دانت بالملك للامويين و استمر حكمه حتى وفاته سنة 73 هـ.
  • 64 هـ: ثورة جيش التوابيين من العراق بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي وبلغ عدد قواته اربعة الاف مقاتل لمقاومة ظلم بني أمية
  • 73 هـ: مقاومة عبد الله بن الزبير لجيش عبد الملك بن مروان وواليه الحجاج بن يوسف الثقفي و حصاره مكة
  • 80 هـ: ثورة القراء التي تفجرت في العراق في البصرة و الكوفة بقيادة عبد الرحمن بن الاشعث الكندي "لخلع عبد الملك بن مروان و نائبه الحجاج واستمرت لاربع سنوات، وعن اسباب ثورة هؤلاء العلماء يقول الامام الذهبي " وقام معه علماء و صلحاء لله تعالى لما انتهك الحجاج من اماتة وقت الصلاة و لجوره و جبروته" وكان ضمن هذا الجيش الصحابي الجليل أنس بن مالك. وابنه النضر بن انس و منهم ابوعبيد بن عبد الله بن مسعود و مجاهد بن جبر و منهم الامام الكبير الصادع بالحق سعيد بن جبير.
  • 120 هـ: ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب يلقّب زيد الأزياد في الكوفة ضد الخليفة الاموي هشام بن عبد الملك

لقد عاصر الإمام أبو حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي و صاحب "مسند ابي حنيفة" ثورة زين بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب في الكوفة ضد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك و كان يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي و حمل المال اليه و الخروج معه، كما ساند الامام ابوحنيفة النعمان ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بالنفس الزكية في ثورته ضد أبي جعفر المنصور سنة 145.

و عاصر الامام مالك بن أنس الاصبحي ثورة النفس الزكية ضد أبي جعفر المنصور فوقف مع الثورة و أفتى بسقوط بيعة أهل المدينة للعباسيين حيث أخذت منهم بالاكراه، وتماهت هذه الفتوى مع فتوى اخرى له بعدم وقوع طلاق المكره، أي عدم وقوع طلاق الرجل الذي اجبر على طلاق زوحته، حيث ربط الناس بين الأمريين و اعتبروا أن بيعة المنصور إنما وقعت تحت التهديد و من ثم فهي غير شرعية، لذلك استدعاه المنصور و جلده حتى انخلعت كتفه من شدة الضرب وحُمل مغشيا عليه، لكنه رفض التراجع عن موقفه وقال في ذلك مقولته التي سجلها التاريخ في وجوب معارضة العلماء للسلطة إذا انحرفت: "ضُربت فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة بن عبد الرحمن، ولا خير فيمن لا يُؤذَى في هذا الأمر".

ثم اعتزل مالك الناس بعدها، يذكر ابن سعد في "الطبقات الكبرى": "كان مالك يأتي المسجد، فيشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويجلس في المسجد، فيجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس، فكان يصلي وينصرف، وترك شهود الجنائز، ثم ترك ذلك كله، والجمعة...". كما يذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" أنه "لم يشهد مالك الجماعة خمساً وعشرين سنة، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: مخافة أن أرى منكراً، فأحتاج أن أغيره".

أما الامام الشافعي و هو صاحب المذهب الشافعي وقد جمع له "مسند الشافعي" فتجمع مصادر الشافعية على أن الخليفة الرشيد العباسي ارسل اليه يطلبه من اليمن حوالي سنة 184هـ و حبسه و هم بأن يتفك به بسبب وشاية تقول أنه كان يخطط للثورة على الرشيد انطلاقا من اليمن و ينسب للشافعي بيت الشعر الاكثر شهرة "إن كان رفضاً حب آل محمدٍ... فليشهد الثقلان إني رافضي".

أما ال‘مام احمد بن حنبل فقد تصدى لنوع آخر من انحراف السلطة العباسية و بدأ محنته التي عرفت باسم "محنة خلق القرآن" وهي التي عانى فيها الفقيه المحدث من بطش السلطة العباسية لمدة تزيد عن 15 عاما حيث رفض الإمام أحمد بن حنبل الانصياع لرؤية الخلافة المؤيدة للقول بخلق القرآن وأصر على ان القرآن هو كلام الله فحسب، وثبت الامام احمد بن حنبل و انتهت محنته مع وصول الخليفة المتوكل إلى الحكم.

أما موقف الإمام احمد بن حنبل من يزيد يظهر من خلال ما قال صالح بن أحمد [ابن حنبل]: قلت لأبي: إن قوما يقولون إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر". وقد رفض الإمام أحمد رواية الحديث عن يزيد لظلمه وجوره. قال الحافظ ابن الجوزي: "أسند يزيد بن معاوية الحديث، فروى عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسنادنا إليه متصل. غير أن الإمام أحمد سئل: أيُروى عن يزيد الحديث؟ فقال: لا ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟. فلذلك امتنعنا أن نسند إلي"

اما ابن تيمية (661 هـ - 728هـ/1263م - 1328م) فقد التقى الوزير المغولي و سأله عن يزيد فأجاب: "وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات، فسألني فيما سألني:‏ ما تقولون في يزيد‏؟ ‏ فقلت‏:‏ لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلًا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه، فقال‏:‏ أفلا تلعنونه‏؟‏ أما كان ظالمًا‏؟‏ أما قتل الحسين‏؟‏ فقلت له‏:‏ نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال اللّه في القرآن‏:‏ ‏(ألا لعنة الله على الظالمين‏)‏ ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن‏.

وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضى بذلك، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفًا ولا عَدْلًا‏. ‏
قال‏:‏ فما تحبون أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى‏:‏ خمّا، بين مكة والمدينة فقال‏:‏ (‏أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏)‏، فذكر كتاب اللّه وحض عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏وعِتْرَتِي أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي).

‏‏‏قلت لمقدم‏:‏ ونحن نقول في صلاتنا كل يوم‏:‏ اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.‏
قال مقدم‏:‏ فمن يبغض أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ من أبغضهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفًا ولا عدلا‏.‏

ثم قلت للوزير المغولي‏:‏ لأي شىء قال عن يزيد وهذا تتريٌ‏؟‏
قال‏:‏ قد قالوا له‏:‏ إن أهل دمشق نواصب، قلت بصوت عال‏:‏ يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة اللّه، واللّه ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا، ولو تنقص أحد عليا بدمشق، لقام المسلمون عليه، لكن كان ـ قديمًا لما كان بنو أمية ولاة البلاد ـ بعض بني أمية ينصب العداوة لعليّ ويسبه، وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد" راجع: مجموع الفتاوى الكبرى/ج4/ص487، ص488

وهكذا فإن أهل العلم في المائة الأولى من الهجرة كانوا يرون بوجوب الخروج المسلح على الحاكم الظالم، ثم تفرقوا في المائة الثانية بين مؤيد للخروج المسلح و مكتف بقول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، ثم استمروا في التردد في المائة الثالثة مع ميل شديد نحو الاكتفاء بقول الحق و ترك التغيير باليد. ولم يظهر فيهم من يدعو إلى موالاة الحكام الظلمة ومناصرتهم والدفاع عن أخطائهم وتبريرها، ولا من يبيح دماء المعارضين السلميين حتى وإن كانوا على غلط وضلال كما يظهر في عهدنا الحديث.

إن الحكام الظلمة على مر التاريخ الاسلامي عملوا على إخفاء ثورة الحسين بن علي ضد يزيد خوفا من أن تنتقل ثقافة الثورة من جيل إلى جيل فلا يستقر حكم الطغاة لفتراة طويلة كما حدث مع يزيد، ولهذا السبب بالذات و لكي تسير الامة على خطى الحسين بن علي علينا أن نحي ذكرى ثورة الحسين كما نحي ذكرى الهجرة، معركة بدر، الإسراء و المعراج وغيرها من المناسبات الدينية. يجب أن نفعل ذلك ليس إقلالا من قيمة الذين قتلوا أو الأحداث الأخرى التي مرت بها أمتنا الاسلامية و لكن لانها أوّل ثورةٍ شهدتها الأمّة الإسلاميّة في وجه الاستبداد السّياسي و الانحراف عن نهج النبوة في الحكم.

يقول الدكتور محمد المختار الشنقيطي "الفتنة في الاصطلاح القرآني هي "إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه." (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 6/3127). فدفْع المظلوم لجور الظالم ليس فتنة، و مدافعة الشعوب للحكام الذين يقتلونها ليس فتنة، والثورة ليست فتنة، بل هي الوقاية منها والعلاج. والقتال الشرعي هو العاصم من الفتنة، السادُّ لأبوابها، طبقا لصريح النص القرآني: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" (سورة الأنفال، الآية 39).

و يقول أيضا " إن الاستبداد ليس أخفَّ الضررين، ولا خيْرَ الشرَّيْن، كما يحاول أن يقنعنا فقهاء السلاطين من الطُّمَّاع والمغفَّلين، بل هو أصل الفتنة وجِذْرها، والسبب المفضي إليها. إنه حرب أهلية مؤجَّلة، وبركان كامن مشحون بالدماء والأشلاء. فلتستعد الشعوب التي تفرِّط في الحرية، وتذعن للاستبداد، لجحيم الحرب الأهلية، عاجلا أو آجلا. لقد سكتتْ أمَّتُنا على الظلم السياسي زمنا طويلا، فهي اليوم تتطهَّر بدمائها من إثم السكوت على الظلم والركون إلى الظالمين."

لقد ظلم الحسين عليه السلام و ثورته ضد الظلم و الاستبداد السياسي عندم أدخلت في مزار الاستقطاب الطائفي و المذهبي البغيض، لقد ظلمنا نحن السنة، ثورة الحسين رضي الله عنه عندما لم نحولها إلى ثورة ملهمة لكل حركاتنا الاصلاحية في مواجهة الطغيان و الاستبداد و الانحراف، و ظلمناها حين تحاشينا التعاطي معها خوفا من تهمة التشيع فغابت عن أحاديثنا و خطبنا و مناهجنا وغابت عن جدول مناسباتنا السنوية خوفا من التماهي مع المجالس العاشورائية.

و ظلم الشيعة الحسين عندما حولوا مراسم عاشوراء إلى نداء للثأر و الانتقام من المخالفين، فيتعاملون معنا و كأنا نواصب من سلالة يزيد و يحملونا مسؤولية قتل الحسين، و ظلم الشيعة الحسين عندما أدخلوا فيها سب الصحابة و لعن خيارهم على السنة القراء، و ظلم الشيعة الحسين عندما نشروا فعاليات لا تليق بثورة الحسين كتعذيب الجسد مثل التطبير و الانغماس بالوحل.

لقد ظلم الشيعة الحسين عندما حولوا المجالس العاشورائية إلى مجالس مفعمة بالحزن و البكاء ولم يحولوها إلى مجالس تعالج قضايا الإنسان الحاضر. لقد ظلم الشيعة الحسين عندما أدخلوا الأحداث المشهورة التي لا أساس تاريخياً لها، وأمثلة ذلك كثيرة كقصة عرس القاسم بن الحسن في كربلاء والتي هي من تأليف بعض خطباء المنبر ولا أثر لها في التواريخ المعتبرة، ومن أمثلته أن السيدة زينب أوصاها الإمام الحسين أن لا تخمش وجهاً ولا تشق عليه جيباً، ثم يزعمون أنها نطحت جبينها بالمحمل حتى سال على وجهها الدم، علماً أن لا أساس لهذه الواقعة.

لقد آن الاوان لرفع الظلم عن الحسين و ثورته المباركة، فالحسين لم يكن يوما للشيعة و لا للسنة فالحسين و ثورته عنوان للأحرار و الثائرين على مستوى الإنسانية جمعا، ونموذج يحتذى و يدرس بالتضحية بالنفس و المال في سبيل مواجهة الاستبداد السياسي. فالحسين و ثورته أنصع و أنبل نموذج للصراع الدائم بين أهل الآخرة و أهل الدنيا، بين المصلحة و النفعية و بين التضحية و الفداء، (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ).

____________________________

* باحث واستشاري في القيادة و الإدارة وتنمية الذات

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

بين عقيدة الإسلام و”عقيدة الواقعية

للإسلام تفسيرٌ للواقع وتعاملٌ معه بناءً على علم الله به ومشيئته فيه، كما يثبتهما الوحي. …