خُلق الإنسان في نصب ومشقة ومكابدة الشدائد وهذه حقيقة تقرها الآية الكريمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فلم يوجد في الأرض للتنعم ورغد العيش فهي دار عبور وسفر ومن طبيعة السفر المشقة، وما ذلك إلا ليظل الإنسان منزعجًا في داره هذه غير آمن فيها ولا يركن فيها لخير أصابه وإن طال به هذا الحال فيظل في حذر وتنبه ولا يجزع عن مرغوب فاته أو مقصود لم يصبه.
ومن كان هذا حاله حسن عمله واستقبل جميع أحواله بقلب راض ونفس مطمئنة فينطلق بحياته ساعيًا سعيًا جادًا لا تثنيه النتائج على اختلافها؛ لأنه مأمور بالأسباب غير مساءل عن النتائج، موطنًا نفسه على تبدل الأحوال وعدم استقرارها فلا يأمن من فتنة ولا يركن لنعمة.
ولا يكاد يخرج الإنسان من مصاب حتى يدخل بآخر فتجده يتقلب في مراحل عمره من طفولة لشباب لشيخوخة فلا الصحة باقية ولا الغنى دائم ولا البحبوحة مستمرة، فإن لم يصبه مصاب في نفسه ففي قريب أو صديق أو حبيب، وكذلك البلدان والعمران ففي بعضها حرب تشريد وتقتيل، وفي الأخرى ظلم وأخرى كوارث طبيعية وهكذا تعددت صور الابتلاءات وسنة الله في خلقه واحدة: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، فالإنسان من كبد إلى كبد ولو سلم من مشقة الدنيا ومحنها وابتلاءاتها لسلم ونجى منها صفوة الخلق الأنبياء والمرسلين.
قصص القرآن أحسن القصص وأصدقه دونك آيات ربك للتذكرة والعبرة ولا تتلوه سردا فيضيع منك المقصود الذي من أجله نزل، يقص عليك قَصَصًا على اختلاف أزمانها وأماكنها وأشخاصها ليثبت قلبك وتقوى عزيمتك بوجه الخطوب والمصائب، فتتحقق فيك العبودية من خلال الرضا والتسليم وتواصل سعيك في الحياة بجناحي الصبر والشكر، وكل أمور العبد تؤول إلى الشكر حقيقة إذ إن صبره على الضراء يستدعي شكر مولاه الذي ألهمه الصبر ابتداء .
وانظر ليثبت الله قلبك وأنت تتخذ من سنة النبي وسيرته منهجًا، وتأمل بالمصائب والفتن والمحن تحيط به، وتَزاحم المشاق والأحمال على كاهله لتجده يفقد الحبيب والنصير والقريب في عام واحد ويسميه عام الحزن، يفقد عمه حصنه وزوجته الرؤوم ملاذه وأول المؤمنين به بل هي سنده المادي والمعنوي، وتمر به المواقف تترى فتدمي وجهه الأنور تارة وأخرى قدميه الشرفتين بل ويفقد الحبيب والقريب والصديق والابن فتبكي عيناه ويحزن قلبه، لكن شيئًا لم ينل من إرادته ولا تسليمه بالرضا لما قدر الله وقضى، ناهيك عن سائر الأنبياء والمرسلين فما من نبي إلا وامتحن فهذا بنفسه وذاك بولده وآخر بزوجه غيض من فيض يقصه عليك كتاب ربك لتعلم أنها حياة ما كانت خالية في يوم ما من الأكدار تجرعها صفوة الله من خلقه فماذا عنك يا مسكين!
المؤمن الذي يقر بعبوديته لله لا بد وأن يرضى ويسلم لما جرت به عليه المقادير ويقتفي أثر المرسلين ويتبع هداهم وتقر نفسه بما أصابه في دروب حياته، إن كان خيرًا حمد وشكر وإن كان ضرًا صبر واحتسب
والمؤمن الذي يقر بعبوديته لله لا بد وأن يرضى ويسلم لما جرت به عليه المقادير ويقتفي أثر المرسلين ويتبع هداهم وتقر نفسه بما أصابه في دروب حياته، إن كان خيرًا حمد وشكر وإن كان ضرًا صبر واحتسب، ومن العوامل المساعدة التي تساعدك على اجتياز هذه الحياة بمراحلها وشتى ظروفها فلا ينال قلبك وهن ولا ملل ما يلي:
أولًا/ أن يُصبّر العبد نفسه ويتجمّل بالصبر في مواجهة أي محنة تصيبه؛ لأن سخطه وحزنه لن يغير من مجريات الأمور ولا المقدور شيئًا، ويذكّر نفسه بأجر الصابرين لما في ذلك من أثر على ترسيخ الصبر والتخلق به لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
ثانيًا/ أن يعلم أن الابتلاء من سنن الله في خلقه وأنه ليس الوحيد بل ربما لو نظر في مصائب الناس ومحنهم لوجد ما هو فيه نعمة تستحق الشكر مقارنة مع مصائب غيره، ومن ثم تكشف معادن الناس في هذه الفتن ويتبين الصادق من الكاذب، المبتلى فقد قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ثالثًا/ أن العبودية تتحقق في الضراء كما هي في السراء فأن تظل تعبد الله وتدعي حبه وأنت في بحبوحة ورفاهية في الجسم والمال امتحان كثير منا يجتازه، لكن ما أقل أولئك الذين يكونوا في كمال الاستسلام ومطلق العبودية في ضرّائهم وسرّائهم وتأمل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
رابعًا/ تشعرك المحن والمصائب حقيقة ضعفك البشري وأنه لا غنى للإنسان عن ربه؛ ففي هذه المواقف يدرك حقيقته كعبد ويستشعر ضعفه في مقابل عظمة الله وقوته.
لهذا على الإنسان أن يوطّن نفسه على استقبال أقدار الله على أنها قطرات غيث تتنزل من السماء على قلبه الظامئ فيزهر ويثمر ، ويعاهد قلبه من فترة لأخرى لتنقيته من الشوائب وتخليته من كل سخط، فليس هناك أشد وقعًا على النفس من سخط يلازمها إذ تجدها مستصغرة مقلة كل نعمة وتنتظر المزيد بلا قناعة ولا شكر، مستعظمة كل مر أو مصيبة متذمرة وكأنه لم يصبها خيرٌ قط، فمثل هذا جحيمه في صدره قد حكم على نفسه بالشقاء ولو كان يرفل بالنعم من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه.