خلق اللهُ تعالى كلَّ شيءٍ بقَدَر، و"القَدَر" هنا مثلها مثل كثير من مصطلحات وألفاظ القرآن الكريم، هي كلمةٌ حمَّالة أوجهٍ ومعانٍ عديدةٍ كما شاءت حكمة العزيز الحكيم.
ومن بين معاني "القَدَر" هنا، أنَّ كلَّ شيء مخلوقٍ بوزنٍ وحجم مُقَدَّرَيْن، وبالتالي، فإنَّ كلَّ شيءٍ مخلوقٌ لِكَي يتحرَّك بضوابط، وفق قدْره المحدود الذي خلقه اللهُ تعالى عليه، وفي ظل سيادة قانون النُّدرة، قريب الصلة في فهمه في هذا الموضع، بمفهوم النُّدرة المعروف في الموارد الاقتصادية.
ومن هذه المعاني أيضًا، أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه اللهُ تعالى، خَلَق معه سياقاته ومصيره، ضمن ركن الإيمان المتعلق بالقضاءِ والقَدَر.
وكلا المعنيَيْن شاءت حكمة الخالق عز وجل البالغة أنْ يكونا؛ حيث يؤكدان –كما كل قوانينه تبارك وتعالى في واقع الأمر– أسماؤه الحسنى وصفات الجلال والعظمة والكمال التي يتصف بها، مثل أنه هو الكامل، وما دونه ناقص، وأنَّه هو القيُّوم على شؤون الخلق، والمتحكِّم المتصرِّف في كل شيء في ملكوته، الذي وَسِعَ كلَّ شيء مخلوق، مما نعلم ومما لا نعلم.
ومن بين الآيات التي جاءت تؤكد المعنى الأول لكلمة "القَدَر"، أي القَدْر، بمعنى المقدار، المحدود، قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8)} [سُورَة "الرَّعد"]، وقوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21)} [سُورَة "الحِجْر"]، وقوله سبحانه أيضًا: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18)} [سُورَة "المؤمنون"].
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ المعاني الموجودة في هذه الآيات، تثبت عظمة هذا الدين، وهذا الكتاب، وبحاجة إلى مواضع عدة للحديث؛ حيث فيها كَمٌّ كبير من الحقائق والقوانين الأساسية التي تضمنتها علوم شديدة التخصص والحداثة، مثل الاقتصاد، كقانون محدودية الموارد، ومثل علم الجغرافيا، كقانون تبدُّل أحوال المناخ في المكان الواحد بين وقتٍ وآخر.
ولهذا –مثل كل شيء علَّمنا اللهُ تعالى إياه– فإنَّ هذه القوانين والمعاني، لها أكثر من مجال تنساح فيه حكمته من مجالات حياتنا، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكذلك –بالتبعية– المجالات التربوية.
وفي الحقيقة، أن المجالات التربوية، هي من أهم المجالات التي يسيطر عليها قانون القَدَر الذي وضعه اللهُ تعالى فينا بالمعنى الأول، الذي يتضمن ضمن ما يتضمنه من معانٍ، أنَّ كلَّ شيءٍ له محطاته ومراحل تطوره، ومحدودية قدرة الإنسان بطبيعة تكوينه فيه.
فنرى العلماء يقسِّمون حياة الإنسان منذ الميلاد، إلى مراحل، وكل مرحلة منها، يجدون لها سماتها الجثمانية والعصبية والنفسية، بحسب حال خِلْقَة الإنسان وقدراته فيها.
وكما كل قوانين اللهِ في خَلْقِه، كرَبٍّ لهذا الكون، فإننا لا يمكننا بحالٍ أنْ نتجاوزَها، لأنها الثوابت المطلقة غير القابلة للتبديل، التي شاءت قدرة اللهِ وحكمته أنْ تضبط إيقاع وتوازن الخَلْق والكون إلى أن يشاء اللهُ تعالى، وتنتهي الحياة الدنيا، ولم يتركها للإنسان، لعلمه بنقصه وعدم تمام عقله، وبالتالي؛ فإنَّنا لو حاولنا تجاوز هذه القوانين، سوف نقع في خانة الفشل لا محالة.
ومن بين المجالات التي يمكن أن نطبِّق هذا الحديث فيها، على المستوى التربوي، خطأ جسيم يقع فيه الآباء والأمهات بحُسن نية، وهو فرض أمورٍ تفوق سِن الطفل عليه، بحُجَّة أو تطلُّع لأن يكبُر مبكِّرًا، خاصة في حالة الأطفال الذكور، سعيًا لـ"أن يصبح رجلاً" قبل الأوان، وفق تصورات غير سليمة عن تعويد الأبناء على تحمُّل المسؤولية، والقيام بواجبات الكبار.
فمن بين القوانين التي يخالفها هذا السلوك، قانون الاستطاعة الذي نَصَّ عليه القرآن الكريم أيضًا في سُورَة "البقرة": {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)}.
وحتى في المجال التربوي القريب؛ فإن فطام الطفل، مُحدَّد له بعمرِ عامين كما جاء في القرآن الكريم، لأنَّ خلق الإنسان قبل هذه السِّنِّ، مثل تكوين فمه ومعدته وسائر جهازه الهضمي والدوري؛ من المحدودية والضعف، بحيث لا يمكن معه تحمُّل الطعام الصلب، ويمكنه فقط تحمُّل تناول الطعام السائل أو اللين الطري.
وهنا يقع الأب والأم في خطأ مفاهيمي، عندما يقارنون أطفالهم بأطفال بعض السِّيَر في الماضي، عندما كانوا يقودون جيوشًا أو يقومون بمعالي الأمور، وبالذات في التاريخ الإسلامي الأول.
الخطأ هنا في عدم مراعاة أمرَيْن. الأول، هو الفروق الفردية، والثاني، هو تبدُّل الظرف واختلاف البيئة، وكلا العاملَيْن لا يمكن بناء استراتيجية تربية عامة يتشابه فيها كل الأطفال، في كل المجتمعات؛ حيث الاستثناء لا يُقرُّ كقاعدةٍ.
وهذا حتى أمرٌ بديهي ومعترف به في المجال الطبي؛ حيث إنَّ سِنَّ البلوغ لدى الفتيان والفتيات يختلف من مجتمع لآخر، وكذلك فروق النمو بين الجنسَيْن، ذكرانًا وإناثًا، بحسب البيئة ونوعية الغذاء فيها، وغير ذلك من العوامل المؤثرة.
وبالتالي؛ فإنَّ الصحيح، هو التعامل مع الطفل بموجب كل مرحلة من مراحل طفولته؛ حيث الطفولة المبكرة تختلف عن الطفولة المتأخرة في استجاباتها وفي متطلبات التربية والتعامل فيها .
وعلى العكس؛ أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، في المجالات النفسية والفسيولوجية، أن إجبار الطفل على القيام بما لا يطيقه، قد يقود إما إلى فشلٍ نفسي، مثل الميل إلى العزلة، وكراهية العالم المحيط به، بما في ذلك الأب والأم، وعدم التفاعل الإيجابي مع الأحداث من حوله.
بل قد يقود ذلك إلى إعاقة ذهنية، أو حتى بدنية؛ إذ إنَّ الضغط المبالَغ فيه من دون حسابٍ للأثر، قد يقود إلى حالةٍ من العجز الدائم في يدٍ أو ساقٍ أو أي عضوٍ من أعضائه، التي قد تكون من الهشاشة غير المُقدَّرة من جانب الأب والأم، أو المُرَبِّي في المدرسة، فيقود الضغط المادي عليها، إلى تعويقها.
أثبتت الدراسات العلمية الحديثة، في المجالات النفسية والفسيولوجية، أن إجبار الطفل على القيام بما لا يطيقه، قد يقود إما إلى فشلٍ نفسي، مثل الميل إلى العزلة، وكراهية العالم المحيط به، بما في ذلك الأب والأم، وعدم التفاعل الإيجابي مع الأحداث من حوله
وهذا بطبيعة الحال، يطبع بطبعه وأثره السلبي الفادح على مستقبله بالكامل.
ومن بين أسوأ الأخطاء في هذا المجال، مُعايرة الطفل بـ"عجزه" مقارنة مع بعض نظرائه في محيط الأقران والجيران والأقارب، أو زملاء المدرسة، الذين قد يكونوا هم الفائقين وهو ذو قدرات عادية، وليس بعاجزٍ، في صورة من صور تجاهل قانون الفروق الفردية كما أشرنا.
ومن بين صور ذلك أيضًا، تجاهل مواهب الطفل في مجالٍ ما، أو ميوله في اتجاه ما، وإجباره على الخوض في مجال قد لا يكون: يحبه/ لا يتفق مع قدراته البدنية.. إلخ، وهنا تبرز خطورة فرض خيار بعينه في مجال الرياضة البدنية عليه لمجرَّد حب الظهور والتفوُّق؛ حيث إن هذا المجال هو أحد أهم أسباب الإعاقة بالمعنى المباشِر بجانب العقد النفسية التي تنشأ من حرمان الطفل مما يحبه، وإجباره على ما لا يحب لاعتبارات اجتماعية تخص الأب والأم، ولا تعنيه هو.
فقد يكون الطفل حتى من محبِّي رياضة معينة، ولكن قدراته الجسمية لا تصل به سوى إلى مستوىً معينٍ فيها، بينما يريد الأب أو الأم أو المدرِّب، أن يراه قد وصل إلى مرتبة أعلى مما لا يتناسب مع قدراته، فيُصاب بإعاقة ما إذا ما واظب على التدريب الشاق المُبالَغ.
ولكن، ولكي لا نُصاب بالشطط أو الجمود، فإنَّ ذلك، لا يمنع مِن السعي المستمر إلى تنمية مهارات الطفل بشكل عام، أو تعليمه موهبة جديدة، أو صقل موهبته التي يحبها، ودفعه إلى التفوق فيها، ولكن شريطة أنْ يتم ذلك بالقواعد العلمية السليمة التي تراعي ضوابط القدرة والاستطاعة لديه على المستويَيْن النفسي والبدني.
لكي لا نُصاب بالشطط أو الجمود، فإنَّ ذلك، لا يمنع مِن السعي المستمر إلى تنمية مهارات الطفل بشكل عام، أو تعليمه موهبة جديدة، أو صقل موهبته التي يحبها، ودفعه إلى التفوق فيها، ولكن شريطة أنْ يتم ذلك بالقواعد العلمية السليمة التي تراعي ضوابط القدرة والاستطاعة لديه على المستويَيْن النفسي والبدني
ويمكن في هذا، المزج بين أدوات الترغيب المختلفة، بعيدًا عن طرائق الترهيب والمعايرة والسخرية منه بـ"عجزه" في مجال ما، أو التسفيه مما يحب هو أن يقوم به، مثل ربط ما يريد الأب أو الأم تعليمه إياه، والتفوق فيه، بدرجة رضائهم عنه، وبحبهم له، بحيث يُقبِل هو على ذلك لأن "بابا الذي يحبه" أو "ماما التي يحبها وتحبه" يريد/ تريد ذلك منه.
وهي طريقة مُثلى حتى لمعالجة مشكلة مزمنة لدى كل الآباء والأمهات والمربِّين، وهي دفع الطفل لأنْ يحب المدرسة ومذاكرة دروسه.
وبالتالي؛ فإنَّ التعامل مع الطفل، بحاجة إلى علم وذكاء أكثر مما هو بحاجة إلى ممارسة الأب أو الأم في البيت، أو المربِّي في المدرسة لسلطته على الطفل .