تعتبر تجربة الاقتراب من الموت واحدة من أكثر الظواهر شيوعا في تاريخ البشر يمر بها كل الناس من مختلف الديانات والأفكار والأعمار وهي تجربة روحية تتميز بالعديد من الخواص مثل رؤية نفسك في نفق في نهايته ضوء إلي الشعور أن وعيك او عقلك انفصل عن جسدك إلي رؤية أقربائك الذين ماتوا قبلك إلي رؤية كائنات نورانية وغيرها من الخواص, كان أول من دفع العلماء و الأطباء لدراسة تجارب الاقتراب من الموت أكاديميا عالم النفس والفيلسوف رايموند مودي عندما نشر كتابه الحياه بعد الحياة الذي ضم حالات لأشخاص مروا بهذه التجربة.
علم الأعصاب الحالي قائم علي فرضية فلسفية غير مثبتة وهي أن المخ (كتلة الخلايا العصبية والمواد الكيميائية في جمجمتك) هو ما يخلق الوعي أو العقل بمعني أن أفكارك، مشاعرك، ذكرياتك، إدراكاتك، وعيك بذاتك (تجاربك الشخصية الواعية) كل هذا ما هو إلا نشاط المخ الكهروكيميائي لكن هذا الكلام عبارة عن فرضية غير مثبتة إلى الآن لم يرصد أحد في أي تجربة علمية المخ وهو يخلق فكرة او يخلق ذاكرة ولم يضع أحد أي آلية بيولوجية يمكن من خلالها أن تتحول الإشارات الكهربائية في المخ إلي أفكار أو مشاعر أو ذكريات والسبب في ذلك أن هذه الأشياء المذكورة بالأعلي هي ليست أشياء مادية في ذاتها ولا يمكن التكلم عنها بمصطلحات فيزيائية فلا يوجد شيء مثلاً اسمه ما كتلة أفكارك؟ او ما طاقة حركة ذكرياتك؟ او ما زخم إدراكك؟ لذلك لم يتمكن أحد من توضيح كيف يمكن للنشاطات العصبية (المادية) في المخ أن تتحول إلي هذه الاشياء التي هي ليست مادة فالوعي/العقل هو أكبر معضلة في علم الأعصاب ومعضلة قد لا تحل أبدآ (1).
تفسيرات تجربة الاقتراب من الموت :
بما أن علم الأعصاب الحالي قائم علي هذا الفرض وبما أن تجربة الاقتراب من الموت تجربة شخصية واعية فقد تم افتراض أن المخ هو ما يخلق هذه التجارب وتم وضع العديد من التفسيرات لها لكن كل هذه التفسيرات تشترك في كونها تعتبر تجارب الاقتراب من الموت (هلوسات وخيالات) بسبب العديد من العوامل النفسية والفيسيولوجية منها نقص الأوكسيجين الذي يصل للمخ، زيادة نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الدم، خلل في عمل فصوص المخ مثل الفص الأمامي المخصص لعملية الانتباه والفص الصدغي حيث زعم عالم الأعصاب السويسري أولاف بلانك أن تحفيز الفص الصدغي من المخ كهربائياً يخلق تجارب مشابهة لتجربة الاقتراب من الموت، الأدوية المهلوسة التي يتم اعطاؤها للمرضي المقتربين من الموت مثل الكيتامين ومادة دي إم تي، اضطرابات النوم مثل حركة العين السريعة، الاضطرابات النفسية مثل اضطرابات التفكك وإضطرابات تبدد الشخصية، العديد من النواقل العصبية التي يتم إفرازها في المخ مثل الإندورفينات، نشاطات عصبية زائدة في المخ بعد توقف القلب بثواني، لكن في الواقع كل هذه التفسيرات إما تفتقر لدليل تجريبي وإما تناقض دليل تجريبي و إما تعجز عن تفسير كل ما يحدث في تجربة الاقتراب من الموت فعلي سبيل المثال:
- في اضطرابات تبدد الشخصية الشخص لا يستطيع أن يتعرف على ذاته ويفقد إحساسه بهويته هذا لا يحدث في تجارب الاقتراب من الموت الأشخاص يدركون هويتهم بشكل طبيعي.
- توجد دراسات رصدت زيادة في نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون أثناء حدوث تجربة الاقتراب من الموت لكن توجد دراسات أخري رصدت عدم تغير في نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الدم ودراسات أخرى رصدت انخفاضاً في مستوي غاز ثاني اوكسيد الكربون في الدم أثناء حدوث تلك التجربة وعليه ففرضية زيادة نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون ليس عليها دليل تجريبي متناسق.
- اوجد دراسات أثبتت أن تجربة الاقتراب من الموت يمكن أن تحدث تحت التخدير العام، التخدير العام يوقف حركة العين السريعة فيمكن بذلك استبعاد تفسير حركة العين السريعة فالتجربة تحدث حتى مع إيقاف هذه الحركة، وكذلك مع بقية التفسيرات كلها غير متناسقة (2)
من تجربة الاقتراب من الموت لتجربة الموت الفعلية:
الموت في الماضي كان يتم النظر له علي أنه نقطة لا عودة منها لكن اليوم وبفضل التقدم الطبي يمكن عكس عملية الموت و إرجاع الموتى للحياة مرة أخرى ودراسة ما حدث لهم أثناء هذه الفترة، الموت المقصود هنا هو الموت بالمفهوم البيولوجي وليس الموت بالمفهوم الديني (لا عودة من الموت بالمفهوم الديني خروج الروح من الجسد) وهو السكتة القلبية أي توقف القلب عن ضخ الدم في الجسم وانعدام التنفس مع توقف المخ نتيجة الانقطاع الكامل للدم عنه، بتقنيات مثل الإنعاش القلبي الرئوي يمكن عكس هذه العملية (3) ويمكن إعادة تشغيل كل من القلب والمخ ودراسة ما حدث للموتى في هذه الفترة قبل الإنعاش وكل من القلب والمخ لا يعملان وبالفعل تم إجراء عدد من الدراسات علي الناجيين من السكتة القلبية من قبل علماء وأطباء مثل سام بارنيا و بيني سارتوري و بيتر فينويك و بيم فان لوميل وكل هذه الدراسات أثبتت ان الوعي/العقل البشري لا يموت عندما يتوقف المخ عن العمل (4)، الناس ترجع وتحكي للأطباء أن درجة الوعي عندهم أصبحت أعلى من وعي الحياة العادية، عمليات التفكير تكون واضحة ومنظمة، يحدث ملاقاة للأشخاص المقربين لك والذين ماتوا قبلك، يكون هناك عرض لكل الأحداث التي فعلتها في حياتك أمامك، فالتجارب الشخصية الواعية ظلت موجودة حتي مع توقف المخ عن العمل لذلك هذه التجارب تعتبر دليل أن الوعي/العقل ليس منتج من نشاط المخ الكهروكيميائي لأن هذه التجارب الواعية ظلت موجودة حتي مع توقف هذا النشاط (5)، ومن السخافة هنا أن تقول أن هؤلاء البشر يهلوسون بسبب عوامل فيسيولوجية مختلفة تحصل للمخ لأن المخ لم يعد يعمل من الأساس كيف ستدعي أن المخ يخلق هلوسة وهو لا يعمل؟ (6) فكل ما تم وضعه لتفسير تجربة (الاقتراب من الموت) - بالرغم من أن هذه التفسيرات لا تفسرها أصلاً - يفترض أن المخ ما زال يعمل أما في تجربة (الموت الفعلية) المخ لم يعد يعمل وبالتالي ولا أي تفسير من التفسيرات المذكورة بالأعلي سيتمكن من تفسير ما يحدث.
خصائص في تجربة الاقتراب من الموت تتحدي فكرة أن الوعي/العقل منتج من المخ :
- تجربة الخروج من الجسد: فيها يشعر الناس أن عقلهم قام بالانفصال عن جسدهم ويمكنهم رؤية الأحداث الواقعية التي تجري حول أجسادهم من مكان أعلى.
توجد أبحاث تدعي أنه يمكن خلق تجربة الخروج من الجسد بتحفيز المخ كهربائياً لكن في الواقع تجربة الخروج من الجسد التي يتم إنتاجها بتحفيز المخ مختلفة تماماً عن تجربة الخروج من الجسد الواقعية، فالتجربة التي تنتج بسبب تحفيز المخ تكون عبارة عن هلوسة وتوهم بوقوع أحداث لم تحصل في الواقع، لكن في تجربة الخروج من الجسد التي تحدث مع السكتة القلبية وتوقف المخ عن العمل يدرك الأشخاص أحداث واقعية حصلت بالفعل حول أجسامهم (7) فبعد إنعاش الأشخاص يرجعون ويحكون للأطباء كل ما حدث حول أجسامهم أثناء هذه الفترة (مثلاً محادثات فريق الإنعاش والطريقة التي تم إنعاشهم بها أو وصف لغرفة الانعاش) هذه مثلاً حالة حصلت مع واحد من أكبر جراحي القلب في العالم الطبيب لويد رودي مريض عنده كان يجري له عملية جراحية في القلب، توقف قلب هذا المريض وذلك لمدة 20 دقيقة ومع ذلك هذا المريض بعد أن عاد من فترة موته، وصف غرفة العمليات وما فعله الأطباء أثناء هذه الفترة وهو يعتبر ميتاً من الناحية الطبية (8) العديد والعديد من الحالات المشابهة لهذه الحالة تم الإخبار عنها من قبل الكثير من الأطباء حول العالم (9) وهذه ليست أدلة نقلية (شهادات أطباء ومرضي) فقط بل تم تأكيد هذه الأدلة النقلية فعلاً بدراسات كما هو مذكور في (4) كيف يدركون ما حولهم بدون نبض القلب؟ وأعضاء الحس متوقفة؟.
- يوجد أيضاً أشخاص يدركون أحداث واقعية حصلت حتي في مكان بعيد عن أجسادهم (أحداث بعيدة عن الحواس مثل العين والأذن) مثلا شخص في غرفة الانعاش يدرك أحداث واقعية حصلت خارج غرفة الإنعاش (محادثات افراد عائلته مثلاً) أو حدث يحصل في مكان أخر من المستشفى الموجود فيها ويتم تأكيد حصول الأحداث التي يخبر عنها بالفعل (10) كيف ستفسر فرضية (المخ يخلق العقل) هذا؟.
ما سيحدث لنا عند الموت حسب هذه التجارب والدراسات إذا هو ان خلايا جسمك ستموت وستتحلل بشكل طبيعي لكن عقلك او ذاتك أو ما سماه اليونانيون القدامي روحك لا تموت بتوقف هذه الخلايا عن العمل.
ملاحظة : كل الحالات يطلق عليها بالخطأ اقتراب من الموت لكن كما هو موضح في (4) من أكاديمية نيويورك للعلوم و في (5) من مجلة جامعة أكسفورد الطبية هذه التسمية غير دقيقة ولا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن هناك حالات ماتت بالفعل (توقف القلب + توقف المخ) ثم عادت وليس اقتربت فقط.
_______________________________________________
المصادر :
(1) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4574630/
(2) https://www.mdpi.com/2076-0787/4/4/775/htm
(3) https://news.stonybrook.edu/facultystaff/stony-brooks-dr-sam-parnia-discusses-reversing-death-on-npr-radio-show-2/
(4) https://nyaspubs.onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/nyas.12582
(5) https://academic.oup.com/qjmed/article/110/2/67/2681812
(6) https://www.newscientist.com/article/mg21729070-400-hours-after-death-we-can-still-bring-people-back/ – https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0300957201004695
(7) https://nyaspubs.onlinelibrary.wiley.com/doi/full/10.1111/j.1749-6632.2011.06080.x
(8) https://digital.library.unt.edu/ark:/67531/metadc937997/
(9) https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6172100/
(10) https://www.revistas.usp.br/acp/article/view/78785