شكَّلَتْ قضية تفلُّت ملايين الشباب المسلم في العالم العربي والإسلامي من التديُّن بمعناه التقليدي، أو بمعناه المتعلق بالانتماء الحركي، واحدةً من أهم القضايا التي شغلت بال الدعاة والعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، وبخاصة الحركات المنتسبة إلى الدين الإسلامي، في ظل تفاقُم هذه الظاهرة.
وليس من قبيل المبالغة لو قلنا إنها أخطر الظواهر التي مرَّت بها المجتمعات العربية والمسلمة في العقود الأخيرة؛ حيث بلغت نسبة خروج الشباب من دائرة التديُّن إلى عدم التديُّن وصولاً حتى إلى الإلحاد، ما يقرب النصف في كثير من المجتمعات، كما ذكرت إحصاءات عديدة نُشِرَت في السنوات الأخيرة، وكان أهمها -وأكثرها صدمةً- هي تلك التي أجرتها مؤسسة "الباروميتر" العربي وهيئة الإذاعة البريطانية في الفترة بين العام 2016م والعام 2018م.
وكان اللافت أن هذه النسبة كانت في بلدان إما ذات طبيعة محافِظَة ويغلب على مجتمعاتها المحلية، طابع التديُّن، أيًّا كان الدين الذي ينتمي إليه هؤلاء، مسلمون أو مسيحيون كما في مصر والأردن، أو يتواجد فيها بكثافة كبيرة، رموز دعوية بما في ذلك باقة ممَّن يُطلَق عليهم "نجوم المنابر والفضائيات والسوشيال ميديا"، كما في اليمن ومصر وتونس والمغرب.
وبالتالي؛ فإنَّ التفسير القريب لهذه الحالة، هو أن جزءاً من الخطاب الدعوي في بعض الدول صار غير مقبول، أو بمعنىً أدق -وهو شيء مؤسف لكن من المهم الاعتراف به- صار غير محل ثقة، بل ونفَّر كثيراً من الشباب من فكرة التديُّن، ناهيك عن قضية الانتماء إلى الحركة الإسلامية والعمل في ميادين العمل الإسلامي المختلفة.
وأسباب ذلك كثيرة، ولكن أهمها ما هو نابع في الأصل من الدعاة والحركات الإسلامية المختلفة.
فمن الثابت في حقول البحوث الاجتماعية والسلوكية المختلفة -بما في ذلك دراسات ترتبط بعلم النفس- أن التشويش أو التضليل الذي قد تتسبب به بعض الأطراف الضد -بشكل عام وليس في هذا الأمر فحسب- لا يمكن، مهما كان مستوى الأُمِّيَّة أو ضعف الوعي عند المجتمع المستهدَف، أو قوة الضَّخ -في المقابل- أنْ يقود إلى هذه الحالة التي نجدها، والتي وصلت إلى مستوى الاحتفال بخلع الحجاب من جانب الفتيات الأصغر سِنًّا.
وفي الحقيقة، فإنَّه في هذا المجال من الحديث، فإنَّه لا بد وأنْ نشير إلى أنَّ هذه الظاهرة أو المشكلة ترتبط بسياق أوسع، وأكثر عمقًا في جوانبه التاريخية؛ فهي مرحلة من مراحل تغريب المجتمعات العربية والإسلامية، وتحوُّلها إلى الطابع العلماني، والتي بدأت في عصور الانحطاط الحضاري التي تمرُّ بها الأمة منذ قرنين إلى ثلاثة قرون.
وتنامت هذه الحالة بفعل حركة الاستعمار الأوروبي المباشِر بدءًا من القرن الثامن عشر، ثم بدء البعثات التعليمية إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، من مصر وبلاد عربية أخرى، بجانب وحركة الهجرة الكبيرة التي خرجت من بلاد الشام في ظل أزماتها الطائفية والسياسية المتلاحقة في ذات الفترة.
ولكن، وكي لا نُستَغرق في مجال آخر للحديث قد يبدو غير ذي صلة، فإنَّنا يجب أن نؤكد على أنَّ أهم الأسباب التي قادت إلى ألَّا يكون الخطاب الديني محل ثقة الجماهير -ولو لدى عدد كبير من المتدينين والذين لا يزالون يحافظون على ارتباطهم بالدين في حياتهم- هما عاملان قائمان لدى العاملين في حقول العمل الدعوي والإسلامي بشكل عام.
العامل الأول/
الانحيازات السياسية لدى رموز مهمة من متصدِّري المشهد، وهذا قادهم إلى منطقتَيْ خطر، الأولى/ هي ازدواجية المواقف بحسب الطرف الذي يوجهون خطابهم عنه؛ فهذا الفعل أو هذه السياسة، حلال في حالة أن تقوم بها الحكومات والجماعات التي ننتمي إليها، أو ننحاز إلى معسكرها، ولكنه حرام في حالة خصومنا، والعكس.
منطقة الخطر الثانية/ هي إعلاء مصالح ومعارك المعسكر الذي ينتمي إليه هؤلاء على حساب قضايا الأمة، فنجد أن أزمات حكومات وأنظمة وجماعات في العالم العربي الشرق الأوسط، تركيا وقطر وإيران ومصر والسعودية والإمارات، والإخوان المسلمين، قد طغت على قضية المسلمين الأولى، وهي قضية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وسيطرة اليهود على المسجد الأقصى ومقدسات المسلمين في القدس وفلسطين.
وأيضاً قضايا الأقليات المسلمة، صار الموقف منها مُسَيَّسًا، ولخدمة خطط وأولويات حكومات بعينها.
بل زاد البعض على ذلك، بأن وظف قضايا المسلمين في خدمة حكومة أو نظامٍ بعينه، توظيفًا سياسيًّا ضيِّقًا، وثبت أن بعضهم "استغفل" جمهوره الذي وثق فيه بهذه الطريقة، بل وقادوا الشباب إلى مهالك الموت في سنوات ما يعرف بالربيع العربي.
في سوريا -بعيداً عن الثورة الشعبية- هناك مَن استجاب لنداءات دعاة "كبار" و"موثوقين" للحرب هناك؛ لأنهم قالوا لهم إنها أول مراحل حروب الفتن والملاحم التي تكلم عنها الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في بعض الأحاديث، أو توظيف مدمِّر لخطاب طائفي مقيت، بين سُنَّة وشيعة، ثم ثبُت بعد ذلك أن الأمور لا تتعلق بفتنٍ ولا ملاحم، وإنما بمصالح أنظمة وحكومات بعينها، وفي صراعات سياسية تخصها.
هذا ثابت، وموثَّق، ولا يمكن إنكاره في عصر التقنية والمحتوى الإلكتروني الذي بات معه نفي الحقائق أو السعي إلى دفنها، ضربًا من ضروب المستحيل!
فلم يعُد -إذًا- هؤلاء أمام الجمهور، ينطقون بكلمة الحق، وهذه حقيقة موضوعية، اعترفنا بها أم لم نعترف، وهي خطيئة يرتكبها بعض متصدِّري المشهد الدعوي والحركي.
العامل الثاني/
خروج بعضهم على صحيح قواعد العمل الدعوي، ومخالفتهم لما يقولونه ويدعون الناس إليه، فأحد نجوم الفضائيات الدعوية -والذي كان يدعو الناس إلى مساندة الحق ومواجهة الظلم والفساد- يقف في صف المفسدين والظالمين، والثاني، يدعو إلى مكارم الأخلاق، ونجده يتزوَّج من ممثلة شابة لم تمثل في حياتها الفنية سوى بما يُعرَف في عُرف المتخصصين بأدوار المقاولات، وزيجة لم تستمر وانهارت سريعًا، بما نقله من خانة الدعاة إلى خانة نجوم الفن وعالم الأعمال ممَّن يتزوجون زيجات سريعة، كعلاقة عابرة لا تحمل من طبيعة علاقة الزواج المقدسة في الإسلام، أيَّ شيء، كتكوين أسرة مسلمة تلتزم في حياتها وتصوراتها بالتصورات الإسلامية.
ذات النقيصة الأخلاقية نجدها لدى "دعاة" آخرين ولكن بصورة أخرى، وهي ترك المجال لـ"الأولتراس" الخاص بهم لمهاجمة خصومهم ومنتقديهم بأقذع الألفاظ في تناقُض واضح ولو مع أبسط قواعد المنطق؛ إذ كيف أهاجم خصوم الدعوة والخطاب الديني، بعبارات تتنافى مع أبسط قواعد الدين، والجوهر الأخلاقي له! كما نقول في مصر: "البعض يدافع عن الدين بسبِّ الدين!"
والأولتراس في الأصل ظاهرة تعبِّر في جوهرها، وفي ماصدق المصطلح عن الفوضى والخروج عن المألوف، مما لا يجب أن يرتبط به الدعاة والمصلحون.
في الحقيقة، فإن ما سبق ليس استغراقًا في مجال النقد والانتقاد، وإنما هو توصيف لا بد منه؛ لأنَّه، وفق منهجية وقواعد البحث العلمي السليم، فإنَّ توصيف المشكلة، هي أولى خطوات الحل.
الحل ببساطة يكمن في أنْ نعيدها إلى سيرتها الأولى، دعوة منزَّهة عن الانحرافات الأخلاقية في الخطاب، وعن التناقض بين خطاب الداعية وبين سلوكه هو نفسه.
الأهم من ذلك، تنقية الخطاب الدعوي من دنس السياسة الضيقة. وهنا لا نقول بتجنيب الخطاب الدعوي والديني بشكل عام من الحديث في السياسة، فهذا لا يتفق مع مهمة المسلم في هذه الحياة؛ لأن السياسة –ببساطة– هي قضايانا المهمة، مثل الأقليات المسلمة، وفلسطين وأحوال المسلمين ومدى فهمهم لدينهم.
هذه هي السياسة التي يجب أن يرتبط بها خطاب الداعية والمصلِح المسلم والعاملين في حقول ومساحات العمل الإسلامي المختلفة؛ لا سياسة الانحياز إلى الأنظمة والحكومات، أصابت أم أخطأت.
الحل بسيط، وعبقري؛ لأنَّ أذكى الأمور بمعنى "Smart"، هي أبسطها، ولخَّصه الصحابة الكبار -رضوان اللهِ تعالى عليهم- بفطرتهم السليمة، وتربيتهم النبوية الصحيحة في حالة مجال سياسي هو من أهم ما يكون، وهو علاقة الحاكم بالمحكوم، وهو مبدأ "إذا أصاب ساندوه، وإذا أخطأ قوَّموه".
لو أننا طبَّقنا هذا المبدأ في كل أمور الدعوة والعمل الإسلامي لوجدنا أنَّ الجماهير الباحثة عن الخلاص في ظل كل ما نعانيه من مصائب وابتلاءات وضغوط نفسية، تقبل مجددًا على الدين كحلٍّ لمشكلاتها، وخلاصٍ لأرواحها ونفوسها، ولكن كحلٍّ حقيقي، وليس شعارًا يستغل الدين في السياسة الضيقة!