نعاني في حياتنا من الكثير من الأزمات والمشكلات التي يكون أهم أسباب تفاقُمها، هو أننا لا نفهم مُسَبِّباتها، ولا يكون لدينا إلمامٌ بطبيعتها الحقَّة وحجم آثارها.
وبشكل عام، فإنَّ أبرز المساحات التي يظهر فيها هذا الأمر في مجتمعاتنا العربية، والمجتمعات التي لا تتمتَّع بالكثير من صور التطوُّر في المجال الاجتماعي والثقافي، وتزداد فيها نسبة الأُمِّيَّة والجهل بمعناه الواسع، هي الأمراض النفسية.
وسلسلة الكوارث التي يتسبب فيها الجهل بحقيقة هذه الأمراض، وبمتطلبات التعامل الصحيح معها، لا تنتهي، بدءًا بالانحرافات الأخلاقية، وصولاً إلى جرائم السرقة والقتل، وحتى التطرف الفكري الذي يقود إلى العنف باسم الدين أو القيمة والأخلاق.
والمشكلة الأكثر شيوعًا في هذا الصدد، هي مشكلة الصورة الذهنية المِعْوَجَّة التي يرافقها الكثير من التشويش حول الأمراض النفسية، كـ"نقيصة" و"سُبَّة" في جبين صاحبتها وعائلته، وبالتالي، يتطلَّب الأمر إخفاءها، مع خلطٍ كبير بين الأمراض النفسية والعصبية والعقلية، وبين الذُّهان والعُصاب وغيرها من صور هذه النوعية من الأمراض، ووضعها في قالب واحد أو أسفل مسمَّىً واحد، هو "الجنون".
وهذا في حقيقة الأمر، خلطٌ غير علميٍّ بالمرَّة؛ حيث الجنون اصطلاحًا، يعني غياب عقل الإنسان بشكل كامل، يفقِدَه التمييز، بينما في غالب الحال؛ فإن الأمراض النفسية والعصبية، وحتى بعض صور الأمراض العقلية؛ يكون الإنسان فيها قادرًا على التمييز بدرجات متفاوتة، ومقبولة .
ولكن، على أية حال؛ فإنَّ هذه النوعية من الأخطاء، معروفة، وهناك جهود من جانب أطباء ومنصَّات علمية كثيرة تعمل على تصحيحها، أمَّا الجانب المهم ولكنه لا يحظى بالقدر الكافي من الوعي والتوعية في آنٍ، هو الجانب الجسدي المتصل بهذه النوعية من الأمراض، وهو جانب من أخطر ما يكون، لأن الجهل به في بعض الأحيان، قد يقود إلى حالات وفاة، أو حتى قتل غير متعمَّد من جانب الناس لبعض أصحاب هذه الحالات.
ونعني بذلك بوضوح وبساطةٍ، هو الأسباب الجثمانية، والآثار البدنية للمرض النفسي أو العصبي أو العقلي.
فكثير من الناس، وخصوصًا ممَّن لا يتمتعون بالقدر الكافي من التعليم والثقافة، يجهلون أنَّ هناك عوارض وأسباب، وكذلك آثار مادية للمرض النفسي أو العصبي ، وكذلك في حالة الأمراض العقلية.فكثيرٌ من الناس المصابين بمثل هذه النوعية من الأمراض، تكون هذه الأمراض في حَدِّ ذاتها، عوارض لمشكلات بدنية، بالذات في المخ ومراكز الإحساس فيه، أو في ضغط الدم وتمثيل السُّكَّر والمعادن المهمة للجسم، مثل دورة مضخة الصوديوم/ البوتاسيوم التبادلية في الخلية أو ما شابه.
وحتى مصطلح "أمراض عصبية" بالذات؛ لا يرتبط فقط بالجوانب المعنوية في الإنسان، فهناك حالات صدمات عصبية "Neurogenic shock" – بالمعنى الحرفي للكلمة – تكون سبب حالات حروق شديدة أزالت الجلد وعرَّت أطراف الأعصاب الحِسِّيَّة في جسم الإنسان، وبالتالي، قد يموت بسبب "صدمة عصبية" مادية أو "فسيولوجية" "physiology"، وليست نفسية "سيكولوجية" "psychology".
وفي هذا؛ فإنَّه كثيرًا مع نسمع عن حوادث عنف تصل إلى حد القتل أو الإيذاء البدني لآخرين، لأسباب عصبية بالمعنى المادي، الجسدي، بسبب أنَّ مُرتَكبها كان يعاني مِن مشكلات نقص في السُّكَّر؛ حيث يتسبب نقص السُّكَّر لعوارض بدنية تقود إلى تبني الإنسان لسلوك عنيف مرغمًا.
والمشكلة الكبيرة لدى كثيرين في مثل هذه الحالات، في صدد التعامُل الصحيح معها، هو عدم وجود عارض أو سبب ظاهري على صاحبها، وبالتالي، يتم إهمالها، أو ممارسة ضغوط على صاحب الحالة باعتباره "يتظاهر" بالمرض، بينما هو يعاني أشد حالات الألم، وقد يموت لهذا السبب بالفعل.
ففي حالات كثيرة من الصدمة النفسية "Trauma"، يكون الإنسان يعاني من ضغوط على جهازه العصبي البدني، أو الفسيولوجي، ويكون أثر ذلك مماثلاً تمامًا كما لو تعرَّض لحريق قاد لتعرية أطراف الأعصاب الحِسِّيَّة كما تقدَّم.
لذلك، فإن علماء النفس يطلقون على "التروما" هذه مصطلحًا موفَّقًا للغاية في شرح هذه المسألة، وهو مصطلح "الكدمة النفسية"؛ حيث هي تشبه الكدمة التي تظهر نتيجة اصطدام عضو أو جزء من جسم الإنسان بجسم صُلب بسرعات عالية، ولها نفس التأثيرـ ولكن لا نراها، وما لا نراه عند العوام، هو في الغالب غير موجود.
ولذلك –وهو بالأمر المؤسف– نسمع عن حالات لأزمات قلبية أو تنفسية تقود إلى الوفاة، بسبب عدم إدراك طَرَفٍ ما أنَّ مَن أمامه يعاني مِن عوارض بدنية لأزمة نفسية مِن نوعٍ ما، مثلما يُقال عليها في مصر "كَرْشِة نَفَس".
وهذا الأمر على أكبر قدر من التخصص في المجال العلمي؛ حيث هناك علمٌ كامل يُطلَق عليه مسمَّى "علم النفس الفسيولوجي" "Physiological psychology"، وهو ذلك العلم الذي يدرس العلاقة بين سلوك وأعضاء جسم الإنسان، ومحاولة إيجاد تفسيرات فسيولوجية أو عضوية بالمعنى القريب، للسلوك الإنساني.
وباختصار، فإنَّه يجمع بين اختصاص علم النفس الذي يدرس الحالة النفسية للإنسان، بما في ذلك الأفكار والمشاعر والأحاسيس والميول والرغبات والذكريات والانفعالات، ويشمل ذلك، دراسة سلوك الإنسان، والنشاط الإنساني بشكل عام، مِن أقوال وأفعال وحركات ظاهرة، وبين علم وظائف الأعضاء، الفسيولوجي، الذي يدرس وظائف أعضاء الإنسان، والمخلوقات الحية بشكل عام.
و"علم النفس الفسيولوجي"، هو من أرقى ألوان علوم النفس والطب البدني معًا، وأحدثها كذلك؛ حيث –كما يقول الدكتور أحمد عكاشة في كتابه الذي يحمل نفس الاسم– يدرس الأساس الفسيولوجي والبيولوجي للظواهر النفسية المختلفة، بما في ذلك النواحي المتعلقة بالحواس والهرمونات، وكذلك الوظائف العليا للدماغ أو الجهاز العصبي المركزي، بما في ذلك الوجدان والتفكير والسلوك.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنَّ ما سبق بطبيعة الحال، بحاجة إلى دراسات ومجلدات تتناسب مع تعقيد الظاهرة الإنسانية بشكل عام، ولكن من المهم إدراك الجوهر السابق لتفادي مشكلات اجتماعية، على المستويَيْن الفردي والجماعي، بعضها حتى سياسي كما في مشكلات الانحرافات الأخلاقية العامة، أو التطرف الفكري.
وبالتالي؛ فإنَّه ينبغي فهْم أنَّ هذا الأمر ليس أمرًا علميًّا بحتًا، أو تَرَفًا فكريًّا ومعرفيًّا، بل له ضرورات كثيرة في عصرنا الحالي، الذي تعقَّدت فيه الظواهر الاجتماعية، بل إنَّ له خصوصية مهمة في مجتمعاتنا العربية في الوقت الحالي، في ظل ما تشهده من أزمات اقتصادية وسياسية، وأعمال عنف وصلت إلى مستوى الحروب الأهلية وموجات نزوح داخلي وخارجي، شَمِلَتْ عشرات الملايين من الناس.
كل هذه الظروف، جعلت مجتمعاتنا بيئةً خصبة للغاية لمختلف الأمراض والإعاقات البدنية والنفسية، والمعقدة لجهة تداخلها وتشابكها مع بعضها البعض، مع عظيم الأثر على الإنسان.
وبالتالي؛ فإنَّ إدراك مثل هذه الأمور، والإلمام بها، من الأهمية بمكان حتى على مستوى الفرد العادي.