- ثَمَّة تصور شائع عن مفهوم الطواعية في الامتثال، ليس في حد ذاته خاطئًا لكنه منقوص، مفاده أن طواعية امتثال المؤمن لله تعالى يجب أن تصدر عن المحبة والرغبة والشوق (والتحفيز بالمصطلح التنموي).
- والحق أن إتيان الله طواعية لا يكون بدافع الرغبة فحسب كما جَرَت الأفهام. إذ إنّ طاقة الإرادة لها جناحان: الرهبة والرغبة.
- فإرادة الرهبة مانعة، أي توجِّه أفعالك للامتناع والإحجام، بما تبعث في وجدانك من الخشية والتوقير والتعظيم والإجلال والخضوع وما شاكلهم.
- وإرادة الرغبة دافعة، توجِّه أفعالك للإقدام والإتيان، بما تبعث في وجدانك من مشاعر المحبة والشوق والشكور والامتنان، وما شاكلهم.
- فَهمُ هذين المستويين وتفعيلهما ضروري، بل مصيريّ في حفظ إيمان المؤمن ودين المسلم ؛ لأن أوقات الفتور وأحايين ضعف الإيمان وخفوت وازع التقوى قد تغري المسلم بالتقصير في حق الله، لدرجة التفريط في الفرائض أحيانًا، بدعوى أنه لا يجد في نفسه رغبة لفعلها، فلا معنى لإتيانها على مَضَض!
أوقات الفتور وأحايين ضعف الإيمان وخفوت وازع التقوى قد تغري المسلم بالتقصير في حق الله، لدرجة التفريط في الفرائض أحيانًا، بدعوى أنه لا يجد في نفسه رغبة لفعلها، فلا معنى لإتيانها على مَضَض
- وهذا فهم خاطئ، فإنّ امتثال أمر الله تعالى حق لازم لا تهاون ولا مهاودة ولا تفضّل فيه، والتكليف يجب على المُكَلّف بغضّ النظر عن حضور مزاجه أو موافقة رغبته . فيمتثل المُكلَّف وقتها بحقّ العبودية وبدافع رهبة الله تعالى، التي لا تعني المضض والمرارة على الحقيقة، بل تعني استحضار ما يعلمه كل مؤمن ذي عقل سليم حين يتفكّر: خشية عقاب الله تعالى، خوف الحساب والمساءلة، خشية الموت على تضييع الفرائض أو انتهاك للمحارم، الاستحياء من التفريط في جنب الله... إلخ.
- فكل معاني الرهبة تلك دوافع محمودة لبعث إرادة الامتثال في المؤمن، بل لعلها في بدء رحلة التهذيب والتزكي تكون هي الجناح الغالب لحَمله على التزام أمر الله.
- وتأمل في مبدأ الجهر بالدعوة، حين (صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: "يَا صَبَاحَاهْ!"، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، قَالُوا: "مَا لَكَ؟" قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ، أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟" قَالُوا: "بَلَى". قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ!"...) [البخاري]. بدأهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإنذار والتحذير لأنه أدعى للتنبيه والإيقاظ عند من لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه بما يجعله مستجيبًا للبشائر وطامحًا في المعالي. ولذلك جاء أمره تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
نفس المؤمن التي استولت عليها الغفلة زَمَنًا، قد لا تدفعها الرغبة في البشائر لامتثال أمر الله فتكون رهبة الإنذار وخشية العقاب أنسب لها مبدئيًا في دفعها للاستقامة وحثّها على الصبر عليها حتى يشتد عود إيمانها
- وتجد في القرآن الكريم غالبًا أنّ البشارة مُقدّمة على النذارة حيث كان الخطاب للمؤمنين والعكس في خطاب المشركين، للسبب المذكور. فإن الخوف من المحذور يدفع صاحبه لطلب أسباب النجاة منه. ثم حين يُقبل على الحق وتتهذب نفسه بالإيمان وتطيب به يطلب أسباب الترقّي فيه. وكذلك نفس المؤمن التي استولت عليها الغفلة زَمَنًا، قد لا تدفعها الرغبة في البشائر لامتثال أمر الله، لأنّ مكافأتها الموعودة غيبية مؤجّلة، في مقابل لذائذ الهوى الحاضرة والعاجلة. فتكون رهبة الإنذار وخشية العقاب أنسب لها مبدئيًا في دفعها للاستقامة وحثّها على الصبر عليها حتى يشتد عود إيمانها.
- والله تعالى {لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19]، ومن لُطْفه سبحانه أن يَسوق العباد إليه بالترغيب تارة والتخويف تارة: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43]. وورد في تفسير الطبري لقوله تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]: "لعلهم يعتبرون، أو يَذكَّرون، أو يَرجِعون" ؛ وورد في تفسير القرطبي نقلًا عن الإمام أحمد بن حنبل: "الآيات هي تقلّب الأحوال من صِغَر إلى شباب ثم إلى تَكهّل ثم إلى مَشِيب، لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمرك".