إن الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً فما ترك لنا أمراً إلا فصَّله تفصيلاً، وبيَّنه بياناً لا لبس فيه ولا غموض. كل ذلك حتى لا يكون للناس حُجَّة على الله تعالى، وحتى تستقيم الحياة وتكون بيئة صالحة للعبادة كما يحب ربنا ويرضى.
وبقدر تمسك العباد بما أمر الله تعالى به، بقدر استقامة حياتهم وانشراح صدورهم وإشاعة الحب بينهم والاجتماع على عبادة ربهم كما أمرهم.
وكلما ابتعد الناس عن ما شرعه الله لهم بقدر الشقاء الذي يدب في أوصال حياتهم وانقباض صدورهم وحدوث الفرقة والشقاق بينهم، فلا هم إلى خير يهتدون ولا طاعة يُقدمون ولا بحياة يهنئون، لذا يمكننا أن نقول أنه (وراء كل نائبة آداب غائبة)!
إن هناك من الآداب آداب إن فقدت قوَّضت أركان الحياة ونغصت على العباد معيشتهم، نختار من بينها أدبين أساسيين وهما:-
1- أدب حفظ أسرار المجالس وأماناتها. 2- أدب الخلاف.
وسوف نتناولهما بإيجاز إبرازاً لأهميتهما ورأباً للصدع الذي يسببه غيابهما.
أولاً: أدب حفظ أسرار المجالس وأماناتها
إن من بين الآداب التي أوصى بها الشرع وعني بها الإسلام عناية بالغة هي أسرار المجالس وأماناتها.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون} [المؤمنون:8].
وقال تعالى: {... وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: من الآية 34].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} {الأنفال:27].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قلَّما خطَبَنا رسولُ اللهِ ﷺ إلَّا قال: لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ له" (رواه أحمد).
من المعروف أنه إذا انتهكت أسرار المجالس وضاعت أمانتها، تقطعت الأواصر والعلاقات، وضاقت الصدور، وتألمت النفوس، وضاعت الثقة، وانتهكت الخصوصيات.
ويكفيك أن تعلم أن إفشاء أسرار المجالس وأماناتها يرفع الجاهل، ويحط من قدر العالم، فتفسح للرويبضة الساحات ويُحرم منها الثقات.
وكلما كان للمجلس حيثيته واعتباره كلما زادت المشكلات المترتبة على إفشاء أسراره للحد الذي يُمكِّن الأعداء من الرقاب، ويُؤدي بالبلاد إلى الخراب.
كلما كان للمجلس حيثيته واعتباره كلما زادت المشكلات المترتبة على إفشاء أسراره للحد الذي يُمكِّن الأعداء من الرقاب، ويُؤدي بالبلاد إلى الخراب
أ) تعريف الأمانة
قال الكفوي -رحمه الله- في تعريف الأمانة: "كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار".
وجاء في إحياء علوم الدين أن الحسن البصري رحمه الله قال: "إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا ".
إن من بين ما يدخل تحت مُسمى حفظ أسرار المجالس وأماناتها أسرار المرضى، فينبغي على الطبيب ألا يُفشي أسرار مرضاه لأي سبب من الأسباب.
ومنها، ألا يتحدث مُغسِّل الموتى بعيب أو سوء يراه أثناء قيامه بغسل الميت.
ومنها، أن يُحدِث الإنسان ذنباً بينه بين نفسه فلا يجب عليه أن يُجاهر بما فعل.
ومنها، حفظ الرجل سر فراش زوجته وحفظ الزوجة سر فراش زوجها.
ومنها، استراق السمع بالتجسس على مجالس الآخرين.
ويُستثنى من الكتمان من كل ما سبق كل ما يتسبب في إيقاع ضرر على النفس أو على الغير، لأن "درء المفسدة مُقدَّم على جلب المنفعة".
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "المَجَالسُ بالأمانةِ، إلا ثلاثةُ مجالسَ: سفكُ دمٍ حرامٍ، أو فرجٌ حرامٌ، أو اقتطاعُ مالٍ بغيرِ حقٍّ" (رواه أبو داود).
ب) قالوا عن حفظ أسرار المجالس وأماناتها
1- قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه".
2- قال الإمام الشَّافعي: "آلات الرِّياسة خمس: صِدق اللَّهجة، وكتمان السِّرِّ، والوفاء بالعهد، وابتداء النَّصيحة، وأداء الأمَانَة".
3- قال الحسن البصري: "إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك".
4- قال ذو النون المصري: "لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها".
5- قيل لأعرابي: ما بلغ من حفظك للسر؟ قال: "أمزقه تحت شغاف قلبي ثم أجمعه، وأنساه كأني لم أسمعه".
حين يلتزم أفراد المجتمع بحفظ أسرار المجالس وأماناتها فإن لُحمة المجتمع تتماسك، ونسيجه يقوى، وأواصره تتوطد ، على عكس المُجتمعات التي تلهث وراء الأسرار وترصد الزلات وتتبع العورات وتوثق الفضائح لتجعلها سيفاً مُسلطاً على رقاب العباد، وخنجراً في خاصرة الهيئات والمؤسسات.ثانياً: أدب الخلاف
إن الاختلاف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ليكون الناس بعضهم لبعض سخرياً، ولتتضافر الجهود وتتلاقح الأفكار بهدف الوصول إلى الصورة المُثلى التي يستفيد منها الجميع.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].
وقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} [الإسراء:84].
إن الله تعالى جعل الاختلاف بين الخلائق آية من آيات عظمته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
وإذا كان الله تعالى قد خلق العباد مختلفين فإن هناك فرق بين الاختلاف والخلاف.
الاختلاف سنة كونية وضرورة حتمية فالليل لابد أن يُقابله النهار، والشمس لابد أن يُقابلها القمر، والشدة لابد أن يُقابلها اللين، والقسوة لابد أن تقابلها الرحمة، حتى الشحنات الموجبة تقابلها شحنات سالبة، وكل ما سبق يجب أن نفهمه ونقبله ونتعايش معه وإلا ما استقامت الحياة.
أما بالنسبة للخلاف، فإن الخلاف هو الجانب المُعتم للاختلاف حيث يلفظ كل طرف الطرف الآخر ولا يقبله ولا يتقبل رأيه ولا يشكر سعيه ولا يعترف بدوره، حينها تنتكس الفطرة وتضطرب العلاقات ويسود التشاحن والتشرذم والتنابز، وقد يتطور الأمر إلى أن يفكر كل طرف في القضاء على الطرف الآخر.
إن الاختلاف إذا أدى إلى خلاف فاعلم أن الطرفين أو أحدهما معلول النية، خبيث النفس، مطموس الفطرة، أعمى البصيرة، يقوده هواه إلى ما لا تُحمد عُقباه.
إن الاختلاف إذا أدى إلى خلاف فاعلم أن الطرفين أو أحدهما معلول النية، خبيث النفس، مطموس الفطرة، أعمى البصيرة، يقوده هواه إلى ما لا تُحمد عُقباه
إن الآراء ما هي إلا وجهات نظر، والنصوص قد تخضع للتأويل، وما أجمع عليه السابقون قد يختلف عليه المعاصرون، وباب الاجتهاد مفتوح وكل مجتهد مأجور حتى ولو رأى من يخالفه الرأي عكس رأيه.
إن الخلاف يأتي ببنيان الأخوة من قواعده، ويُدمِّر سقف بنيان الإنسانية، فتتأجج الصراعات في الأقطار والأمصار، وتنحى العقول والقوانين والأعراف جانباً، ولا نسمع إلا صوت المدافع والطائرات.
إن الخلاف لا يترك قوياً إلا أضعفه، ولا عزيزاً إلا أذله، ولا عرشاً إلا أزاله، ولا غنياً إلا جعله ممن يسألون الناس إلحافاً .كما رأينا أن الخلاف هو واحد من السلوكيات السيئة المذمومة لذا لابد وأن نعمل على رأب الصدع، وتضييق هوة الخلاف، وتقبل الآخر، دون تنازل عن مبدأ صحيح، ولا عن أصل من أصول الدين والعقيدة.
إننا لو تركنا حدة الخلاف تتفاقم سيؤدي ذلك إلى الفرقة التي نهانا الله تعالى عنها في قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: من الآية 103].
ونهانا عنها النبي ﷺ في قوله: "الجماعةُ رحمةٌ و الفُرقةُ عذابٌ" (رواه أحمد).
أ) نماذج للاختلاف
سبق أن ذكرنا أن الاختلاف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وقلنا أن الاختلاف يؤدي إلى تضافر الجهود وتلاقح الأفكار بهدف الوصول إلى الصورة المُثلى التي يستفيد منها الجميع.
يذكرنا الشرع أنه قد حدثت نماذج عديدة للاختلاف في الرأي وفي وجهات النظر على مستويات مختلفة وأوساط مختلفة ولكن لوجود النية الحسنة والتجرد التام مرت هذه المواقف بسلام دون أن تنال من نفوس أطرافها ولا من قلوبهم شيئاً.
1- نبأنا القرآن الكريم أن الملائكة قد اختصموا فيما بينهم.
قال تعالى: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُون} [سورة ص: الآية 69].
لقد كان اختصام الملائكة في شأن آدم عليه السلام حين قال لهم الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
2- وأخبرنا أن ملائكة الرحمة وملائكة العذاب اختصموا فيما بينهم في شأن الرجل الذي قتل مائة نفساً، أهو في الجنة أم في النار إلى أن أتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم...
3- ونبأنا القرآن الكريم أيضاً أن نبي الله موسى اختلف مع أخيه هارون، عليهما السلام، بعد عبادة بني إسرائيل لعجل السامري.
4- ونبأنا القرآن الكريم كذلك عن اختلاف نبي الله داوود وابنه سليمان عليهما السلام في حكم الغنم إذ نفشت في زرع القوم.
5- وعلمنا عن اختلاف وجهات نظر الصحابة في أسرى بدر بين قتل الأسرى وبين العفو عنهم مقابل الفداء، حتى نزل حكم الله تعالى فيهم.
6- ورأينا ما حدث من الصحابة في بني قريظة عندما قال لهم النبي ﷺ: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فمن الصحابة من التزم بنص الحديث، ومنهم من اجتهد وصلى في الطريق قبل الوصول إلى بني قريظة حتى لا تضيع الفريضة وكانت حجتهم أن النبي ﷺ إنما قصد حثهم على السير، فلم يعب النبي ﷺ على أي من الفريقين.
ب) ضوابط تحد من مغبة الخلاف
1- إن ما يحد من مغبة الخلاف هو العقل الراجح، والقلب السليم، والضمير الحي، والإخلاص الذي لا تشوبه شائبة .
2- التحرر من التعصب بأي صورة من صوره، سواء كان تعصباً لأشخاص أو لمذاهب أو لطائفة.
3- الإنصاف والانتصار للحق في أي جهة كان.
4- حسن الظن بالآخرين وعدم اتهام نواياهم، وعدم تسفيه آرائهم.
5- سد باب المراء والجدال واللدد في الخصومة.
6- الالتزام بأدب الحوار بالتي هي أحسن.
7- التركيز على نقاط الالتقاء ومواضع الاتفاق والعمل على تعظيمها وجعلها تهيئة للنفس ومدخلاً للقلب.
وما يحد من مغبة الخلاف هو أن نفهم أن:-
* الخلاف لا يعني البُغض ولا الكراهية.
* الخلاف لا يبيح العِرض، ولا يحل الغيبة، ولا يكون مُبرراً للقطيعة.
* الآراء للعرض وليست للفرض، وللإعلام وليست للإلزام، وللتكامل وليست للتلاكم.
وأخيراً أقول:
إن النائبة التي أصابت أمتنا ونالت من قوتها ومكانتها هي أننا لا نراعي للمجالس حرمتها، ولا للاختلاف آدابه.
إننا لم نراع حرمة المجالس فانتهكت الأسرار، ومُزِّقت الأستار، واهتزت الثقة، وشاع فساد ذات البين، حتى تاهت الأمة في مهاوي الخلاف وسراديبه، كل ذلك بالرغم أننا أكثر أمة تمتلك مقومات الوحدة والعزة والسيادة والريادة.