يرى بعض الناس خصوصاً في المجتمعات الغربية - الدينَ - على أنه قوىً شريرة تعزّزُ العنفَ بين البشر، ولذلك يحاولون بكل الطرق الممكنة إقصاءَ الدين من السلطة العامة واستبدال الدين بالأفكار والإيديولوچيات العلمانية غير الدينية، محاولين بذلك إقناع البشر أن كل ما هو غير ديني سيكون أفضل للمجتمعات وسينشر السلام والأمان بين البشر.
لكن في الواقع بفحص التاريخ والدراسات الأكاديمية بشكل دقيق يمكن أن يعرف الجميع أن الأفكار والإيديولوچيات العلمانية لم تكن أبداً مصدراً للسلام ولم تكن أبداً أقلَّ عنفاً من التطرف الديني، بل في الحقيقة كانت مصدراً لعنف مستعصٍ أعظمَ بكثير من العنف الديني.
– أسطورة العنف الديني:
يذكر ويليام كاڨانو في كتابه المنشور من دار نشر جامعة أكسفورد: أسطورة العنف الديني (العلمانية وجذور الصراع الحديث) [1]؛ خير مثال على ذلك، فأكثر الحروب فتكاً وفظاعة في تاريخ البشر كانت حروباً علمانية، الحرب العالمية الأولى التي تعتبر القوميةَ (إيديولوچية سياسية علمانية) سببَها الرئيسي والتي تسبب في قتل أكثر من 38 مليون إنسان عسكري ومدني. كذلك الحرب العالمية الثانية، الماركسية (إيديولوچية علمانية) تسببت في قتل ما يقارب من 110 مليون إنسان.
ستالين، ماو تونع، الخمير الحمر قتلوا ما يتراوح ما بين 21 مليون إنسان إلى 70 مليون إنسان وكلهم كانوا ملاحدةً عسكريين، بالإضافة إلى أن الحروب في المائة سنة الأخيرة من حياة البشر كلها تقريبًا كانت حروبًا لأسباب علمانية (غير دينية) كالحروب على الأراضي، البترول، نشر الديموقراطية، الأصل العرقي، الأسواق الحرة.
يفحص ويليام كاڨانو في كتابه أيضاً أقوالَ الأكاديميين الذين يجادلون أن الدين مصدر للعنف، وذلك لأنه إطلاقي وانقسامي وغير عقلاني؛ موضحاً أنهم جميعًا فشلوا في وضع حد فاصل بين العنف الديني والعنف العلماني، فهم يوسعون من مفهوم الدين ليشمل كل ما هو سيء ومسبب للعنف ثم يتهمون الدين بعد ذلك أن له ميل غير طبيعي مقارنةً بأي شيء آخر لتعزيز العنف.
يضع ويليام كاڨانو تحت ما يسمى الدين المعتقداتِ الدينية كالإسلام، والمسيحية، والهندوسية، والبوذية، والكونفوشية، والزرادشتية إلخ، ثم يضع تحت ما يمكن تسميته علماني (غير ديني) أشياء مثل السياسة، والاقتصاد، والإلحاد، والقومية، والليبرالية، والشيوعية، والرأسمالية إلخ، ثم يفحص أقوال الأكاديميين الذين يجادلون أن الدين مصدر للعنف فيجدهم يقومون بتسمية إيديولوچيات مثل الشيوعية أو الليبرالية التي من المفترض أنها إيديولوچيات علمانية غير دينية - "دين" - للهروب من مشكلة أن هذه الإيديولوچيات سببت عنفاً أعظم وأكثر إستعصاءاً من العنف باسم الدين فعلى سبيل المثال:
- السياسي بهيخو باريك يذكر أن: ”الدين مصدر للعنف ويمكن أن يحول الأرض إلى جحيم“ لكنه يعترف أن ما هو دين يشمل الماركسية، والسياسة المحافظة، وحتى الليبرالية.
- المؤرخ مارتن مارتي يذكر أن: ”الدين إطلاقي لذلك هو يعزز العنف“ لكن ما يقصده بالدين هنا يشمل كل الإيديولوچيات السياسية.
- عالم الاجتماع مارك چورجينسمير يذكر أن: ”الدين يقسم البشر إلى نحن وهم، أعداء وأصدقاء لذلك هو يعزز العنف“ لكن ما يقصده بالدين هنا كل الإيديولوجيات العلمانية أيضًا فهو يقول إن العلماني ما هو إلا نسخة دين مطورة.
- المتخصص في الدراسات الدينية من جامعة أريزونا ريتشارد وينتز يذكر أن: ”الدين مصدر للعنف“ لكن ما يقصده بالدين هنا يشمل الإنسانية العلمانية، والاستهلاكية، والإيمان بالتكنولوچيا، والتعصب الكروي، وغيرهم من الممارسات.
– اختراع الدين:
يفحص ويليام كاڨانو الأصوات القائلة أن الدين مصدر للعنف موضحاً أنه لا يوجد أي تعريف واضح لكلمة ”الدين“ يمكننا من التفريق بين ما هو ديني وما هو غير ديني، فعلى سبيل المثال لو عرفنا الدين أنه إيمان بالكيانات فوق-الطبيعية أي الآلهة الموجودة خارج العالم الطبيعي سنضطر لإقصاء الديانات الإغريقية القديمة من خانة الأديان فالإغريق كانوا يعبدون كيانات طبيعية، بتعريفات أخرى يمكن أن تضع ديانات مثل البوذية تحت خانة الإيديولوچيات العلمانية، وأن تضع إيدلولوچيات علمانية تحت خانة الدين، إضافة إلى أن الدين بمفهومه الحالي مختلف كلياً عن مفهوم الدين في العصور القديمة، فقبل العصر الحديث، لم يكن الدين نشاطًا منفصلاً كما هو حاله الآن، فقد تغلغل في جميع نواحي الحياة الإنسانية مثل السياسة والاجتماع والاقتصاد، فلا يمكن أن تأتي الآن لتقول إن الحروب وصور العنف في الماضي كانت بسبب دوافع دينية فقط. كل الناس كانت تحارب لدوافع سياسية واجتماعية واقتصادية أيضًا وهؤلاء البشر في الماضي ما كانوا يستطيعون التمييز بين الدافع الديني والدافع الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، فالدين كان مترابطًا مع كل هذا، يعني إذا قرر مجموعة من البشر يتبعون الديانة اليهودية على سبيل المثال محاربة بشر يتبعون الديانة المسيحية؛ لا تستطيع أن تقول إنه لمجرد أن هؤلاء يهود وهؤلاء مسيحيين تحاربوا، إذ ربما اليهود يريدون توسيع نطاق دولتهم واكتساب مزيد من السلطة والاستيلاء على ثروات المسيحيين، فهنا دافع الحرب الرئيسي سيكون سياسي واقتصادي وليس دينيًا. لكن لأن الديانة اليهودية في الماضي كانت مترابطة مع السياسة والاقتصاد في الدول اليهودية، يتم الاعتقاد أن الدافع الديني هو سبب الحرب، فذلك التمييز لم يكن ممكنًا حتي بداية العصر الحديث، حيث اخترعنا مفهومًا جديدًا عن الدين باعتباره نشاطًا منفصلاً عن بقية نواحي الحياة الإنسانية.
– استعمالات أسطورة العنف الديني:
يذكر ويليام كاڨانو فوائد مختلفة للترويج لهذه الأسطورة فهي تستخدم لتصوير الأنظمة الاجتماعية غير العلمانية -وبالأخص المسلمة- في صورة الشرير والمتطرف وبالتالي تبرير التدخل العسكري الغربي في شئون الدول الإسلامية وتبرير العنف ضد المسلمين بتعبير كاڨانو: ”يريدون ترسيخ صورة أن العنف الدينى خطير وغير عقلاني ومتعصب، أما عنفنا العلماني فهو عنف عقلاني يسعى للسلام، وهو عنف ضرورى لاحتواء عنفهم، إننا نجد أنفسنا مُجبرين على تفجيرهم ليصبحوا ديمقراطيين ليبراليين“
يذكر أيضاً أن هذه الأسطورة تم استخدامها لمنع الصلاة في المدارس، ومنع جميع المظاهر الدينية في المؤسسات الحكومية، ويختم الكاتب بأن العلمانية لم تكن أبدًا ولن تكون حلاً كونيًا شاملاً لمشاكل العنف، فالبشر يحاربون بعضهم البعض علي أشياء كثيرة ولا يوجد أي داعي لإعتبار أن الدين هو السبب الوحيد.
– ومن يظن أن الدول العلمانية الحالية تعيش حياة سعيدة خالية من العنف هو من يعيش في وهم كبير. في الواقع الدول العلمانية الحديثة - كما تجادل الباحثة Janet Jakobsen في فصل من كتاب Interventions: Activists and Academics Respond to Violence - هي مصدر معظم العنف الموجود في العالم الآن وكانت مصدر لعنف أكبر بكثير من الدين في الماضي [2]، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية العلمانية وحسب الجمعية الأمريكية الطبية، سنوياً هناك أكثر من 16000 حالة قتل، و 1.6 مليون إصابة غير مميتة تتطلب علاجاً في أقسام الطواريء، ويعاني أكثر من 12 مليون بالغ من عنف الشريك سنويًا، ويعاني أكثر من 10 ملايين طفل دون سن 18 عامًا أشكالاً من سوء المعاملة من قبل مقدمي الرعاية لهم، بدءًا من الإهمال وصولاً إلى الاعتداء الجنسي [3]. وفي السويد العلمانية العنف بالأسلحة النارية في تزايد [4].
وفي صفحة 427 من كتاب Psychology, Religion, and Spirituality تحت عنوان العنف؛ بلغ عدد القتلي من المسيحيين بسبب العنف العلماني غير الديني ضدهم أكثر من 25 مليون إنسان حول العالم، العنف ضدهم يترواح ما بين قتلهم بسبب رفضهم التخلي عن إلتزامهم الديني إلى مضايقتهم والتحرش بهم حتى الموت، أو القبض عليهم، أو إغلاق الكثير من كنائسهم. ونعم الحرية [5]، والآن على سبيل المثال الصين العلمانية تقوم باضطهاد المسلمين [6].
ومن يتم خداعه بأقوال مثل العلمانية تعني الحرية لكل الناس، فصل الدين عن الدولة فقط، وأي شخص من حقه أن يمارس حياته كما يريدها ويعبد ما يريد، فهو لا يعرف شيئًا عن التاريخ. العلمانية باختصار هي معاداة واضطهاد أهل الأديان.
_____________________________
الهوامش
[1]https://global.oup.com/academic/product/the-myth-of-religious-violence-9780195385045?cc=us&lang=en&[2]https://link.springer.com/chapter/10.1057/9781403981561_8
[3]https://jamanetwork.com/journals/jama/article-abstract/2422549
[4]https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6197136/#!po=1.61290
[5]https://link.springer.com/book/10.1007/978-0-387-87573-6
[6]https://www.theguardian.com/commentisfree/2019/oct/31/china-uighurs-muslims-religious-minorities-marco-rubio