إضاءات جديدة حول حرية الاختيار والمُعتَقَد كأصلٍ في القرآن الكريم

الرئيسية » بصائر الفكر » إضاءات جديدة حول حرية الاختيار والمُعتَقَد كأصلٍ في القرآن الكريم
Ideas

تُعدّ قضية حرية الاختيار واحدةً من أهم مباحث الحقوق الفردية في نظرية الحق في الدراسات القانونية والسياسية والاجتماعية بشكل عام، وأحد أبرز المركزيات التي نهضت عليها الحضارة الغربية السائدة حاليًا، وركَّزت عليها في منظومتها القيمية.

وهي تُعَدُّ كذلك مِن بين أكثر القضايا جدليةً في النقاشات التي تدور بين المفكرين المسلمين ونظرائهم في الغرب، ضمن سياق التدافع الحضاري على مختلف المستويات، بين أبناء الحضارات المختلفة، وهو أمرٌ طبيعي؛ فهو قانون خُلِق مع خَلْق الدنيا نفسها.

ويتصل بذلك الكثير من القضايا، وعلى رأسها، وهو ما يشغل حيِّزًا كبيرًا من النقاشات منذ عقود طويلة، منذ أنْ ظهرت الصحوة الإسلامية قبل حوالي قرن ونصف من الزمان، قضية مدى قدرة الإسلام على ترتيب منظومة حكم وإدارة اجتماعية واقتصادية وثقافية، في ظل متغيرات العصر الحالي.

وبالرغم من وجود أساسيات مهمة في هذا الصدد أبرزتها تجربة دولة المدينة، أول دولة ظهرت في تاريخ الإسلام، وحُجِّيتها من حُجِّيَّة حاكمها، وهو الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"؛ فقد كان يعمل وفق منطق الوحي الإلهي، بالرغم من ذلك، مثَّل تاريخ الدول الإسلامية التي ظهرت تاليًا لفترة الخلفاء الراشدين، تحديًا كبيرًا أمام مفكِّري الصحوة الإسلامية؛ فلدى الآخر، في الغرب والشرق على حدٍ سواء، لا يوجد فصل بين سياسات الحكم في هذه الدول، وبين الإسلام، بالرغم من أنَّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- نفسه نفى عنها صفة "الخلافة على منهاج النبوة"؛ فهي وفق حديث حذيفة بن اليمان -رضي اللهُ عنه- إمَّا ملكٌ عضوض، أو ملكٌ جبريٌّ.

المهم أنَّ قضية حرية الاختيار، وفي صلبها حرية العقيدة، مع اتصالها بمسألة حد الرِّدَّة في الإسلام، قد مثَّلت مجالاً مهمًّا للنقاش، وللمماحكات كذلك.

وهنا نصل إلى صُلب هذا الموضوع، وهو كيف أنَّ حرية الاختيار كانت هي قضاء اللهِ تعالى على نفسه عندما خلق البشر، وكيف أكد ذلك القرآن الكريم نفسه، الذي هو نصٌّ آتٍ من عند اللهِ تعالى.

النموذج الأشهر في هذا الأمر، هو الآية التي يقول فيها ربُّ العزَّة سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]، ولكن نعرف أنَّ بعض الفقهاء يقولون بنسخ هذه الآية، أو أنَّ معنى كلمات الآية لا يعني حرية اختيار العقيدة، وإنَّما يعني أنَّه يعني عدم الإكراه داخل إطار الإسلام ذاته، بالرغم من أنَّ باقي الآية على قدرٍ كبيرٍ من الوضوح في المعنى المقصود.

وهنا تظهر مشكلة كبرى في الدراسات الإسلامية ينبغي البحث عن معالجات لها، بالمعنى العلمي والمنهجي؛ لأنَّ المعتاد، وهو أمرٌ قائم في مختلف الجامعات الإسلامية، هو رصد مختلف الفتاوى والتفاسير والمعاني، بما في ذلك الشاذة منها، فيما يخص أيَّة مسألة، أو أيّة آيةٍ أو حديث نبويٍّ شريف، ثم ترجيح إحداها.

ولكن -ووفق نتائج دراسات معتبرة في مجال العلوم السلوكية وعلم النفس والاجتماع - غالب الحال، أن العوام وغير المتخصصين، وهم الغالبية الساحقة من مجتمع المسلمين عبر العالم في الوقت الراهن، في ظل عدم وجود تعليم ديني بالمعنى الواسع، سوف تتجاوز الذاكرة لديهم ما يتعلق بقضية اعتبارات البحث العلمي التي فرضت دراسة الآراء الضعيفة والشاذة، وقد يأخذون بها متى لاقت لديهم قبولاً أو هوىً.

وهذا ليس من نافل القول أو من قبيل المبالغة؛ فمشكلة التكفير بين المسلمين عبر التاريخ، وفي عصرنا الحالي، وما ترتب عليها من اقتتال وقتل، إنَّما مشكلتها الأساسية أنَّ بعض غير المتخصصين وغير الدارسين للعلوم الشرعية، قد أطلق أحكامًا، وهذا في حد ذاته خطأ فادح، أو أطلقها من دون فهم لظروفها وملابساتها، أو على أوضاع قائمة لا تنطبق عليها، أو عمم أحكامًا استثنائية على أحوال دائمة.

مشكلة التكفير بين المسلمين عبر التاريخ، تعود إلى أنَّ بعض غير المتخصصين وغير الدارسين للعلوم الشرعية، قد أطلق أحكامًا من دون فهم لظروفها وملابساتها، أو على أوضاع قائمة لا تنطبق عليها، أو عمم أحكامًا استثنائية على أحوال دائمة

وبالعودة إلى السياق الرئيس للحديث، وهو كيف أنَّ حرية الاختيار والمُعتَقد هي الأصل الذي أكدته الشرعية الإسلامية، وبالتالي، نحن كمسلمين، وفق قاعدة التسليم والإذعان مُلزمون بها -فإنَّنا نقول إنَّ القرآن الكريم، والذي هم الحَكَم والمرجعية الملزِمة لكلِّ مسلم، وفيه حُكم اللهِ تعالى- حَمَل لنا ما يقول بأنَّ قضية حرية الاختيار والمُعتَقَد هي أصل من أصول اللهِ -سبحانه وتعالى- وقانونٌ أقره على نفسه؛ تمامًا كما حرَّم الظلم على نفسه، والتزم في قَيوميَّتِه على شؤون الخلق بقوانين أخرى عديدة، تخصه بصفته كرَبٍّ خالقٍ لهذا الكون، وهي التي تضمن توازنه واستمراره إلى أنْ يشاء عز وجل.

يقول اللهُ تعالى في مُحْكَم التنزيل: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشُّعَراء: 4].

ولهذه الآية عدة تفاسير، نقف فيها عند قول قتادة؛ فقد ذكر الطبري والقرطبي أن قتادة قال: "إنَّ المعنى أنه لو شاء اللهُ - عزَّ وجلَّ - لأنزلَ آية يُذلُّون بها؛ فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله".

وعندما تناول الشيخ محمد متولي الشعراوي هذه الآية في خواطره حول القرآن الكريم، قال بأنَّ اللهَ تعالى يخبرنا في هذه الآية، أنَّه لو شاء؛ لأتاه الناس طائعين ولكن مجبرين، ولكنَّه –لحكمته البالغة– أراد أنْ يأتيه الناس باختيارهم الحُر.

وهنا تغيب حقيقة مهمة عن أصحاب الرؤى المغلوطة والمفاهيم الخاطئة، وهي أنَّ حرية الاختيار التي منحها اللهُ تعالى للإنسان، هي في الأصل منحة من اللهِ تعالى لبني آدم، وبالتالي؛ لا خلل فيها أو منها، حتى وإنْ لم نفهم نتائجها أمامنا من سلوكيات البشر منذ آدم -عليه السلام- حتى الآن، والأهم بالنسبة لنا ولعقيدتنا، أنَّه لا يجوز لنا أنْ نجابهها، أو نأتي بأي شيء أو فعلٍ يعارضها، وإلا تجاوزنا جوهر الإيمان بالإسلام.

فهو اللهُ تعالى، الخالق، وكماله لا يطاله نقصٌ، ولا يعتريه أيُّ عارِض، ومِن ذلك طلاقة قدرته التي لا شكَّ فيها، ولا ريب، وهو مطلقٌ في اختياراته وتدبيره، وفي تعامله مع خلقه؛ كلٌّ بما يشاء اللهُ تعالى، وبما ارتأته حكمته، فهو بينما منح بني آدم حرية الاختيار، لم يمنحها للسماوات والأرض مثلاً.. يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فُصِّلَتْ:11].

وهذا الأمر مركزي في خطاب اللهِ تعالى لخاتم الأنبياء والمرسلين، محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقد وضع سبحانه له -عليه الصلاة والسلام- حدودًا في دعوته للناس؛ فأوقفه عند مستوى الدعوة -لا الإجبار- يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يُونُس: 99].

إذًا، فالقرآن الكريم يخبرنا بعبارات شديدة الوضوح أنّ حرية الاختيار والمُعْتَقَد هي أصل وضعه اللهُ تعالى للإنسان، وهي منحةٌ منه سبحانه لبني آدم، لحكمةٍ أخبرنا ببعض جوانبها وأخفى البعض الآخر ، ومن سياقات القرآن الكريم، فإنَّ هذا الأصل على أكبر قدر من الأهمية والمركزية في تدبير وتخطيط اللهِ تعالى لأمر الدنيا والكون.

وبالتأكيد؛ فإنَّ هذه المفاهيم بحاجة إلى مزيد من التعمُّق واللغة المُتخَصِّصة، إلا أنَّ المبدأ العام لها ينبغي أنْ يكون في مختلف البرامج التعليمية والتربوية لأية مؤسسة أو إطارٍ منظَّم يعمل في المجال التربوي والمفاهيمي في العالم الإسلامي، وفي أوساط المسلمين بشكل عام، عبر العالم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

حقيقة النصر بين المفهوم الرباني والمفهوم الإنساني (سورة البروج نموذجًا)

يقف الإنسان اليوم بكل ما أوتي من قوة الحضارة المادية والرفاهية الاقتصادية وما أتيح له …