رُوِيَ أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد رأى رجلاً مُتماوتاً، فقال له: "لا تُمِتْ علينا ديننا، أماتك الله"، ورأى رجلاً مُطأطئاً رأسه، فقال له: "ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض" (التفسير المنير للزحيلي).
إن أصحاب الورع الكاذب والتدين المغشوش إنما يفعلون ذلك ظناً منهم أن ما يفعلونه إنما هو من تمام الإيمان، وكمال الزهد، ومن لزوم الورع، وسمات التقوى، ونسي هؤلاء وأمثالهم أن الإسلام دين وسط لا يعترف بالميوعة التي ابتدعها النصارى، ولا يُقر القسوة التي ابتدعها اليهود .
جاء في تاريخ الطبري أن الشفاء ابنة عبدالله رأت فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً فقالت ما هذا؟ قالوا نُسَّاك. فقالت: "كان والله عُمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، هو والله الناسك حقاً".
أولاً: تعريف الورع
جاء في (لسان العرب) لابن منظور: "الورع: التَّـقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم".
وفي (التعريفات) للجرجاني: "الورع: هو اجتناب الشبهات؛ خوفًاً من الوقوع في المحرمات".
وقال ابن القيم في (الفوائد): "الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة".
وأوضح ابن القيم الفرق بين الورع والزهد فقال: "أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة".
ثانياً: أنواع الورع
لقد قسَّم العلماء الورع إلى ثلاثة أنواع أساسية، وهي:-
1- الورع الواجب: قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وأما الورع الواجب: فهو اتقاء ما يكون سببًا للذمِّ والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المُحرم).
2- الورع المندوب: قال الراغب الأصفهاني: والورع المندوب هو الوقوف عن الشبهات.
3- الورع الفاسد: مثل ورع أصحاب الأوهام والظنون الكاذبة والبدع والتنطع، ومثل حال أهل الوسوسة في النجاسات وغيرها من الأمور الناشئة عن ضعف دين، وضعف عقل، وقلة علم.
لهذا يحتاج المسلم الورع إلى فهم دقيق، وإخلاص عميق، وفقه لا غلو فيه ولا تنطع، وإلا فقد يُفسد بتورعه الفاسد أكثر مما يُصلح، وقد يحبط عمله وهو لا يدري، لأن عبادة الله تعالى لابد وأن تبنى على فهم وإخلاص.
إن الورع لابد وأن يشمل الجوارح كلها، فالورع لا يجب أن يكون في جانب دون آخر ، فورع العين غض البصر، وورع اللسان التعفف عن البذاءة وعن آفات اللسان، وورع اليد الكف عن البطش والإيذاء والتعدي، وهكذا مع سائر الجوارح.إن أفضل الورع هو ورع الخلوات فالمؤمن الورع يُوقن أن الله تعالى معه وناظره ومُطلع عليه في كل مكان وعلى أي حال.
وأفضل الورع هو أن يتورع الإنسان عن شيء ينقصه أو شيء تشتهيه النفس، مخافة الوقوع فيما يغضب الله عز وجل.
إن أفضل الورع هو ورع الخلوات فالمؤمن الورع يُوقن أن الله تعالى معه وناظره ومُطلع عليه في كل مكان وعلى أي حال
ثالثاً: الورع في الكتاب والسنة
1- قال تعال{ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ {61}} [المؤمنون: 57-61].
عن سعيد بن جبير رضي الله عنه، في قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قال: يفعلون ما يفعلون وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت، وهي من المبشرات.
2- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "سألتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ عن هذِهِ الآيةِ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قالت عائشةُ: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ قالَ لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)" (رواه الترمذي).
3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يقولُ: "لا تُشَدِّدُوا على أنفُسِكم؛ فيُشَدِّدَ اللهُ عليْكُمْ، فإِنَّ قومًا شدَّدُوا على أنفُسِهم، فشدَّدَ اللهُ عليهم، فتلْكَ بقاياهم في الصوامِعِ والديارِ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتبْنَاهَا عَلَيْهِمْ" (تخريج مشكاة المصابيح بإسناد حسن).
4- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مَرَّ النبيُّ ﷺ بتَمْرَةٍ في الطَّرِيقِ، قالَ: لَوْلَا أنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا" (صحيح البخاري).
5- عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: "فضلُ العلْمِ أحبُّ إِلَيَّ مِنْ فضلِ العبادَةِ، وخيرُ دينِكُمُ الورَعُ" (صحيح الجامع).
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جلساء الله تعالى غدًا أهل الورع والزهد".
رابعاً: صور من ورع الصحابة
1- عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: "لم يكن أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ مُنحرفِينَ ولا مُتماوِتينَ وكانوا ينشُدون الأشعارَ في مجالسِهم ويذكرون أمرَ جاهليَّتِهم فإذا أُريد أحدُهم على شيءٍ من دِينه دارتْ حماليقُ عينَيه" (السلسلة الصحيحة).
2- عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِي إهَابِ بنِ عُزَيْزٍ، فأتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقالَتْ: قدْ أرْضَعْتُ عُقْبَةَ، والَّتي تَزَوَّجَ، فَقالَ لَهَا عُقْبَةُ: ما أعْلَمُ أنَّكِ أرْضَعْتِنِي، ولَا أخْبَرْتِنِي، فأرْسَلَ إلى آلِ أبِي إهَابٍ يَسْأَلُهُمْ، فَقالوا: ما عَلِمْنَا أرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إلى النبيِّ ﷺ بالمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: كيفَ وقدْ قيلَ، فَفَارَقَهَا ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ" (صحيح البخاري).
3- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "كانَ لأبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بشيءٍ فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ، فَهذا الذي أكَلْتَ منه، فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ" (صحيح البخاري).
4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه كانَ فَرَضَ لِلْمُهاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أرْبَعَةَ آلافٍ في أرْبَعَةٍ، وفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلاثَةَ آلافٍ وخَمْسَ مِئَةٍ، فقِيلَ له هو مِنَ المُهاجِرِينَ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِن أرْبَعَةِ آلافٍ، فقالَ: إنَّما هاجَرَ به أبَواهُ يقولُ: ليسَ هو كَمَن هاجَرَ بنَفْسِهِ (صحيح البخاري).
خامساً: قصة عن الورع
جاء في كتاب (الزهر الفائح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح) لـ "شمس الدين ابن الجزري" رحمه الله: "قال بعض الصالحين: كانت هناك جارية تطوف بالكعبة وإذا هي تقول: يا كريم، عهدك القديم!
فسألتها ما هو خطبك؟
فقالت: كنت في البحر فعصفت بنا ريح وحطمت السفينة وغرق كل من حملته إلا أنا وطفلي ورجل على لوح آخر، فلما أصبح الصباح دخل إليَّ وهو يسبح واستوى معنا على اللوح، وجعل يراودني عن نفسي ..
فقلت له: يا عبد الله نحن في بلية لا نرجو السلامة منها بطاعة فكيف بالمعصية؟
فقال: دعيني فو الله لا بد من ذلك، ومد يده للطفل ورماه بالبحر..
فقلت: (يا من يَحُول بين المرء وقلبه حُلْ بيني وبين هذا الرجل بحولك وقوتك إنك على كل شيء قدير)
وإذا بدابة من دواب البحر قد فتحت فمها والتقمت الرجل، فما بقي إلا أن أخذت بي الأمواج للبر، فلقيت قوماً أنبأتهم بأمري..
فقالوا: نحن نخبرك بأعجب منكِ، كنا في البحر وقد اعترضتنا دابة وإذا بطفل على ظهرها ومناد ينادي خذوا هذا الطفل وإلا أهلكتكم، فأخذناه، فرد طفلها لها بحول الله" أهـ.
سادساً: الورع الكاذب
قال سفيان الثوري: "سيأتي أقوام يخشعون رياء وسُمعة، وهم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام".
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا في السوق يحمل تمرة وينادي عليها صارخاً "لقد وجدت تمرة فمن صاحبها" ؟ ولما رأى عمر أنه يفعل ذلك تظاهراً بالورع, علاه بالدرة وقال له: دعك من هذا الورع الكاذب!.
وجاء رجل من أهل العراق إلى ابن عمر وقت الحج يسأله عن بعوضة قتلها، فهل عليه دم أم لا؟! فقال ابن عمر: سبحان الله، يا أهل العراق تقتلون ابن رسول الله (أي الحسين بن علي) وتسألون عن دم البعوض!.
سابعاً: قصة من التراث عن الورع الكاذب
دخل رجل إلى بيته فوجد زوجته تبكي، وعندما سألها عن السبب قالت: إن العصافير على الشجرة مقابل نافذتها ترى شعرها وتخاف أن يكون في ذلك غضب الله، فقبَّلها بين عينيها على عفتها وقطع الشجرة.
وفي يوم من الأيام عاد الرجل مُبكراً فوجد زوجته في أحضان رجل غريب.
فتركها وسافر وبدأ يتجول في الديار، وبينما هو في مدينة نائية وجد جمعاً من الناس وسمع لغطاً فسأل عن السبب فقالوا: خزينة الملك المكنوزة سُرقت.
وأثناء حديثهم مرَّ بهم رجل يمشي على أطراف أصابعه فسأل المسافر الجمع: من هذا؟
فقالوا له هذا كاتب العدل في المدينة.
فقال صاحبنا: فما باله يمشي الهوينى على أطراف أصابعه؟
قالوا: يمشي بهذه الطريقة لأنه يخاف أن يدوس النمل فيكون في ذلك غضب الله.
فصاح الرجل: أيها للملك، أيها الملك كاتب العدل هو السارق وإذا وجدتني كاذباً فاضرب عنقي.
وبعد التحقيق اعترف كاتب العدل بأنه السارق.
فسأل الملك الرجل: كيف عرفت ذلك؟
قال صاحبنا: كل شيئ يبالغ فيه فهو تغطية لجرم أكبر.
وأخيراً أقول
إن الورع يجلب محبة تعالى، ويُرضي نبيه ﷺ، وبه يتم البُعد عن الشبهات، والاحتراز من المعاصي، واستبراء الدين والعرض، وهو سِمة من سِمات الأتقياء الأنقياء.
إن الورع المطلوب من المسلم لا يُقاس بشكل ولا بهيئة، ولا يُقاس كذلك بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان ، ولكنه كما قال الصحابي الجليل يحيى بن معاذ رضي الله: "الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن، فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تُدخل قلبك سواه".إن تكلف الورع هو مَحْض كذب وافتراء، وهو تدين مغشوش به علة وفيه دخن، وهو أول ما يصل بصاحبه إلى الرياء، والعياذ بالله.
يقول الشاعر
كم عُصبة قد أوغلوا في نُسكهم *** فتنكبوا سُنن الطريق وحادوا
فدع التطرف في الأمور تنطعاً *** إن التطرف صنوه الإلحاد