من الملاحظ أنه في بعض مواسم الطاعات تنتشر النداءات مُطالبة المسلمين بالعفو والتسامح والمصالحة وإصلاح ذات البين، وهذا كله من أصل الدين، وفعل ذلك لا يحتاج لمناسبة ولا لموسم معين بل يجب أن يكون خلقاً ممتداً في كل وقت.
قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وقيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهم: "سأل رجلٌ رسولَ اللهِ ﷺ عن حُسنِ الخُلقِ فتلا قولَه تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} {الأعراف:١٩٩} ثمَّ قال ﷺ: هو أن تصِلَ من قطعك وتُعطيَ من حرمك وتعفوَ عمَّن ظلمك" (تخريج الإحياء).
هذا ديننا، وهذه هي مكارم الأخلاق التي ما بُعث النبي ﷺ إلا ليتمها.
التباس لا بد من تناوله وإزالته
إن هناك من الناس من يلتبس عليهم الفهم فيظنون أن العفو الذي أمرنا به الإسلام عفو مُطلقٌ لكل أحد وفي كل ذنب أو معصية، والشرع ما عنى ذلك أبداً، وإلا لتمادى الخطاؤون في غيِّهم فضاعت الحقوق وعُطلت الحدود وانقسم الناس إلى صنفين، صنف يتطاول على الخلق ويُعربد في الأرض وكله ثقة ويقين أن الصنف الآخر سيصفح ويعفو ويسامح.يقول الإمام عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "إن من الصفح الجميل أن توقِع العقوبة على المُخطئ متى ما كان الحال يُحتّم عليك عدم التجاوز والتغاضي، إن الصفح الجميل أن يكون اللين في محله والشدّة في محلها".
كما يقول أيضاً، في تفسير قوله تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]: "وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به".
ويقول الإمام بن باز رحمه الله: "أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضاً أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أيضاً أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمة. ولذلك جاءت بالأمرين معاً، واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يُطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله".
إن ديننا يتصف بالوسطية والاعتدال، وهذا يجعل المؤمن يوازن بين مواقف العفو والصفح طمعًا في الثواب، ومواقف الانتصار من المعتدي الباغي إنصافاً للحق، وحفظاً للمروءة، وحرصاً على عدم علو الباطل.
إن ديننا يتصف بالوسطية والاعتدال، وهذا يجعل المؤمن يوازن بين مواقف العفو والصفح طمعًا في الثواب، ومواقف الانتصار من المعتدي الباغي إنصافاً للحق، وحفظاً للمروءة، وحرصاً على عدم علو الباطل
قال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41]
يصف ابن العربي - رحمه الله - الحالة المقتضية للانتصار من الباغي فيقول: "أن يكون الباغي معلنًا بالفجور، وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل".
كما يصف الحالة المقتضية للعفو فيقول: "أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل".
يقول إبراهيم النخعي عن حال السلف: "كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفسَّاق".
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "خُذُوا على أيدِي سفهائِكُم" (رواه ابن الملقن في تحفة المحتاج بإسناد جيد).
يقول الشافعي رحمه الله:
"من استُغضب فلم يغضب فهو حمار"
ويقول المتنبي:
إذا قيلَ رِفقاً قالَ للحِلمِ موْضِعٌ ** وَحِلْمُ الفتى في غَيرِ مَوْضِعه جَهْلُ
أما إذا كان المرء مغلوبًا على أمره ولا يجد من ينصفه ويرد إليه حقه فعليه أن يتأسى بنبي الله نوح - عليه السلام - حينما عجز عن درء أذى قومه عن نفسه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10].
وخلاصة القول في ذلك أنه لا بد من إحياء خلق (الانتصار) الذي ذكره الله تعالى في كتابه بشروطه وضوابطه؛ كيلا تعتاد الأمة قبول الخنوع، لا من فاسق معتد آثم، ولا من كافر ظلوم جهول، وكيلا تضيع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تموت روح الجهاد، أو تستمرئ الأمة وأفرادها الخنوع والاستكانة.
لا بد من إحياء خلق (الانتصار) الذي ذكره الله تعالى في كتابه بشروطه وضوابطه؛ كيلا تعتاد الأمة قبول الخنوع، لا من فاسق معتد آثم، ولا من كافر ظلوم جهول، وكيلا تضيع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تموت روح الجهاد، أو تستمرئ الأمة وأفرادها الخنوع والاستكانة
اذهبوا فأنتم الطلقاء
إن عبارة "اذهبوا فأنتم الطلقاء" يتذرع بها البعض ويقولون إن النبي ﷺ قالها لكفار قريش يوم فتح مكة وهم قد آذوه وآذوا أصحابه الكرام وأخرجوهم من مكة!
ولهؤلاء أقول:
إن الأمور لا تطلق على عمومها هكذا، فقبل أن نحتج بهذه العبارة لا بد أن نعرف كل ملابسات الموقف وماذا تم فيه.
جاء فتح مكة عندما انتهكت قريش بنود صلح الحديبية المتفق عليها بينهم وبين المسلمين.
خطط النبي ﷺ أن تقوم قواتُ المسلمين بدخول مكةَ من جهاتها الأربع في وقت واحدٍ، ليشتت قوة قريش ويُفرِّق جهدها، فلا يستطيعوا منع المسلمين من دخول مكة.
نجحت خطة المسلمين في دخول مكة من ثلاث جهات دون مقاومة تذكر إلا أن الجهة الرابعة التي توجه إليها خالد بن الوليد - رضي الله عنه - تجمع فيها صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم من رجال قريش وشبابها وتصدوا للمسلمين بالسِّهام، فما كان من خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلا أن أصدر أوامره بالانقضاض عليهم والفتك بهم، وبذلك تمت السيطرةَ الكاملة على مكة.
عن سعدٍ بن أبي وقاص رضي الله عنه قالَ: "لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله ﷺ الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس ابن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح... إلى نهاية الحديث" (رواه بن الملقن بإسناد صحيح).
إن ما حدث يوم فتح مكة يمكن تلخيصه كما يلي:
1. تأديب أوباش قريش الذين تصدوا للمسلمين في الجهة التي دخل منها خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومن معه فأمر بالانقضاض عليهم والفتك بهم.
2. الحكم بقتل أكابر المجرمين (أربعة نفر وامرأتين) وقال ﷺ: "اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة"، كما رأينا في الحديث.
3. تحييد عموم المشركين وجمعهم في أماكن حددها لهم النبي ﷺ، من دخلها كان آمناً (من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ. ومن ألقى السلاحَ فهو آمنٌ. ومن أغلق بابَه فهو آمنٌ... إلخ) وكانت موافقتهم على الامتثال للأمر بمثابة الأسر.
كان الهدف من الإجراءات الثلاثة هو أن يتضح المُحارب من المُسالم، وأن تزول كل العوامل التي تمنع الناس من اتباع فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها، واتخاذ قرارهم بالدخول في الإسلام من عدمه عن اختيار وقناعة، ودون خوف من أحد ودون إكراه ولا إجبار.
وكان الهدف كذلك ألا يكون العفو مُطلقاً لأن (العفو المُطلق فساد مُطلق)
إن من يعفو عفوًا مطلقًا في المواقف المتشابكة الشائكة فهو كمن يضمد جُرحًا وبه ما به من قِيح وصديد، فلا يلتئم أبدا .إن العفو لا بد وأن يكون مقروناً بالمقدرة، ولا يُسمى العفو عفواً إن كان مقروناً بالعجز، بل يسمى رضوخاً واستسلاما.
السؤال هنا: من أين جاء لفظ الطلقاء؟ ومن هم الطلقاء؟
يقول ابن أبي حديد في شرح "نهج البلاغة": "الطلقاء: كل من دخل عليه رسول الله ﷺ عنوة بالسيف فملكه، ثم منَّ عليه عن إسلام أو غير إسلام فهو من الطلقاء، وكذلك كل من أسِر في حرب الرسول ﷺ، ثم امتن عليه بفداء أو غير فداء فهو طليق".
إن عبارة "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ" يتداولها الناس على أنها وردت عن النبي ﷺ لمشركي قريش أثناء فتح مكة، والحقيقة أنه لم يرد حديث صحيح به هذه العبارة، ولكن من أطلقهم النبي ﷺ بعد تحييدهم، وأسرهم في أماكن حددها لهم، ثم أطلقهم اكتسبوا صفة "الطلقاء" وسموا بـ "الطلقاء" نتيجة لهذا الموقف، وكان عددهم ألفي شخصا.
"يا معشرَ قريشٍ ما ترَونَ أنِّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال: اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ" (قال الألباني: ليس له إسناد ثابت، وهو عند ابن هشام مُعضل).
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: " فإن قوله: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) كلها ألفاظ معناها (من استسلم فلم يقاتل فهو آمن ولهذا سماهم الطلقاء كأنه أسرهم ثم أطلقهم كلهم).
أخيراً أقول:
لا تطالب بالصفح والعفو والمسامحة ممن لم يجد ممن تعدى وظلم إلا تمادياً وتجبراً، ولم يكترث هو بما احترق من أجله! إن العفو عنه قد يجعله أكثر تعدياً، ومسامحته قد تجعله أكثر ظلماً وتجبرا .إن من يُخطيء في فهم معنى التسامح ربما يُسيء أكثر مما يُحْسِن، ويهدم أكثر مما يبني، فتراه يصفح عن ظالم مُتجاوز الحد أو مُعتد آثم، فتختل الموازين وتضيع الحقوق وتعطل الحدود.
إن من يُخطيء في فهم معنى التسامح ربما يُسيء أكثر مما يُحْسِن، ويهدم أكثر مما يبني، فتراه يصفح عن ظالم مُتجاوز الحد أو مُعتد آثم، فتختل الموازين وتضيع الحقوق وتعطل الحدود
لا بد وأن نعلم أن هناك أفراداً نتعبد إلى الله تعالى بكرههم والدعاء عليهم في كل وقت من ليل أو من نهار لظلمهم لعباد الله ولتعديهم حدود الله، ونبغض كذلك كل من يوالونهم ويعينونهم على ذلك.
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي قال: "إنَّ أوْثَقَ عُرَى الإسلامِ: أنْ تُحِبَّ في اللهِ، وتُبغِضَ في اللهِ" (صحيح الجامع).
وخلاصة القول
إن مرتبة العفو هي مرتبة فضل وليست مرتبة عدل، فمرتبة العدل تضمن إحقاق الحقوق، ومعرفة الجاني من المجني عليه، وقدر الجناية وعقوبتها، ثم يكون هناك قوة تُخضِع المعتدي ليستسلم للانتصاف منه.
بعد كل هذا يأتي دور توجيه النصح للمُعْتدَى عليه أن يعفو، طمعاً في الأجر والثواب، دون ضغط ولا إجبار لأن ليس كل الناس يطيقون العفو، لذلك قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فحين يرى المُعْتَدَى عليه أن الشرع لم يهضم حقه، تسكن نفسه، وتهدأ ثائرته، هنا يمكن أن نذكره بقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، فإن عفا يكون عفوه فضلاً منه، وبنفس راضية، لا حقد فيها ولا ضغينة.