في خضم الأحداث والتغيرات التي تمر على الأفراد والحركات وخاصة تلك التغيرات المفاجئة والمتسارعة التي تحدث ولم تكتمل الاستعدادات لها على صعيد إعداد الأفراد الإعداد الجيد الذي يضمن استمرار نجاح الدعوة في تحقيق أهدافها وارتقائها في ظل ثوابت ورؤى واضحة للغاية والوسائل، حتى لا يدب في الدعوة أو أفرادها الخور والتيه، ويصابوا بأمراض قد تودي بهم وبدعوتهم، ومن هذه الأمراض "الغفلة" التي إذا ما استشرت في الأفراد فقدت الدعوة بوصلتها وأعاقت مسيرتها الكثير من الهموم والمشاكل التي تستنزفها، وهذا المرض يأخذ أشكالاً متعددة:
أولاً: التهالك على الدنيا والغفلة عن الآخرة
قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ..}، هي كلمات تهز الغافلين هزاً، فالأيام تمضي والسنون تمر والعمر ينقضي والموت يقترب والحساب واقع وهم في غفلة!! لاهية قلوبهم، لا تزيدهم نِعم الله عليهم إلا تقصيراً، ولا يزيدهم حلم الله وستره عليهم إلا تمادياً واستخفافاً، وهم رغم ما عندهم من نعيم وقوة يعيشون ضَنَك الحياة، وقد يكون نعيم الاستدراج فقد قال صلى الله عليه وسلم: )إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ تَعَالى يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ ((رواه أحمد)، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
وقد حذّر الله جل وعلا من التهالك على الدنيا والغفلة عن الآخرة تحذيراً شديداً فقال سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي شغلتكم الدنيا وصرفكم نعيمها الزائل فلم تنتبهوا إلا وأنتم في المقابر قد عاينتم الحقائق كلها، لا تريدون أن تسمعوا لله موعظة ولا أمراً، ولا تريدون أن تجتنبوا لله نهياً، وصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ، وفي رواية مسلم "وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ") (رواه البخاري).
ثانياً: الاستخفاف بأوامر الله ورسوله
من أبشع صور الغفلة أن يستخف رجل ينتسب للإسلام لأمر الله ورسوله ، فإذا قلت له: إن الله عز وجل يأمرك بالصلاة في وقتها، يأمرك بصلة الأرحام، يأمرك بالعمل لدينه، يأمرك بالوفاء بالعهود، يأمرك بالرفق واللين، والتسامح والإخاء، يأمرك بالسمع والطاعة، يأمرك بتلاوة القرآن والتخلق بآدابه، رأيته يستخف بأمر الله، ويترك العنان للسانه ليُبدع في الأعذار، مشغول، مريض، مهموم، قريبي مات...، وغفل عن شعار المؤمنين الصادقين في قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.ولقد رأينا أبا الدرداء رضي الله عنه باكياً بعد فراق محمد صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما انقلب ضاحكاً، ليقول: (أضحكني: مؤمل الدنيا، والموت يطلبه، وغافل، ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أرْضَى الله أم أسْخَطه).
ثالثاً: الغفلة عن الغاية
فنحن مخلوقون لغاية لا بد أن نعِيَها وأن نعيش لها ومن أجلها وألا نتغافل عنها أبداً {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، فهذه هي الغاية التي من أجلها خُلقنا، ولأجلها أعطينا العهود والمواثيق وفي سبيلها نعمل ونقدم الغالي والنفيس فهي أعمالنا يحصيها الله لنا ثم يوفينا إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
أما والله لو علم الأنام.......لِمَ خُلقوا لَمَا غفلوا وناموا
لقد خُلقوا لما لو أبْصَرته.......عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ.......وتوبيخ وأهوالٌ عظامُ
والعمل لهذه الغاية يحتاج الهمة والتعب وليس الدعة والراحة، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أطلقها قانوناً للدعاة فقال: (الراحة للرجال غفلة).
ونادى بها شعبة بن الحجاج البصري فقال: "لا تقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم".
وهي نفس النهج عند ابن الجوزي حين سأله سائل: "أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟" فقال: "عند نفسك من الغفلة ما يكفيها".
وقالها الشافعي: "طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان".
وهي طريق رسمه الإمام أحمد واعتبر علامته في حياتك اليومية "أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتنام وجدت لركبتيك أنيناً، وفي عضلاتك تشنجاً، لكثرة ما تحركت في نهارك"... وإن كان لابد من غفلة فلتكن كما أرادها بن القيم حيث يقول: "لا بد من سِنة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم".
رابعاً: الغفلة عن واقع الأعداء
فقد ينسى المرء واقع الأعداء، وأنهم يعملون بالليل والنهار، ولا يسمحون لأنفسهم بتضييع لحظة بغير عمل، وبغير كيد لله ولرسوله، ولجماعة المسلمين الذين يأبون أن يبقى هذا السرطان جاثم على أرضنا ومقدساتنا، يعبث بعقيدتنا، وينتهك كل محرم، ثم تجد من يستهتر، ولا يحتاط لنفسه ولا لإخوانه، ويستهين بإمكانات العدو، وقد تنحرف بوصلته لينسى عدوه الأساس لينشغل بعداوة الأخ والأخت، والقريب، والجار، ومسؤوله في العمل فيصبح المكر بهم أولوية لا يتعداها شيء.
خامساً: الغفلة في أيام النعمة
أكثر ما يكون الإنسان غفلة عن نعم الله حين يكون مغموراً بتلك النعم، فلا يُعرف فضل النعمة إلا بعد زوالها، ولا فضل العالم إلا بعد فقده، ولا موت المصلح إلا بعد موت أقرانه ، ولا قيمة العظيم إلا بعد قرون من فقد المجتمع له.بالأمس كان الكثير يحتاج للوظيفة والعمل ويتلمس إخوانه هنا وهناك من أجل ذلك، فلما أنعم الله عليهم بهذه النعمة بدأ البعض منهم يطالب بالمزيد ترقيات ورتب ومواقع وظيفية أعلى، وينال من إخوانه، في الوقت الذي يغفل فيه هؤلاء عن شكر النعمة، والتزام العمل للدين، والمشاركة في أعمال الحركة الخاصة والعامة.
سادساً: ففروا إلى الله
والفرار نوعان: فرار السعداء إلى الله، وفرار الأشقياء من الله، ومع ذلك فلن تفر منه أبداً فلا ملجأ منه إلا إليه!! فأين تذهبون؟!
يا نفس قد أزف الرحيل....... وأظلَك الخَطْبُ الجليلٌ
فتأهبي يا نفسٌ لا يلعب ....... بكِ الأمل الطويلُ
ففروا إلى الله، واغتنموا دقائق الحياة وثوانيها وخاصة دقائق الليل الغالية فلا ترخصوها بالغفلة، وأعيدوا السمت الأول لدعوتكم فإن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول، ومتى ما صفت القلوب بتوبة، ووعت هذا الكلام أذن واعية: كانت تحلة الورطة الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة.