إن المنهج العقلي اليوم في البحث عن حل المشكلات يقوم على خطوات ومراحل هي : تحديد المشكلة أولا ثم وضع الفرضيات المحتملة ثم اختبار هذه الفرضيات لقبولها او رفضها وأخيرا التوصل الى الحلول والنتائج.
ولعلنا نقف بشيء من التفصيل على هذا المنهج في حل المشكلات، وكيف عرضه القرآن الكريم، وذلك من خلال الحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام وقومه، حين حاجّهم وجادلهم في إثبات بطلان عبادتهم للكواكب والنجوم ، وذلك في الآيات التالية من سورة الأنعام:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿74﴾ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴿75﴾ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ﴿76﴾ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴿77﴾ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴿78﴾ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴿82﴾ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴿83﴾ "
ولنستعرض الآن ومن خلال الآيات الكريمة هذا المنهج العقلي الذي سلكه إبراهيم عليه السلام في دعوة قومه:
• لقد بدأ ابراهيم عليه السلام بتحديد المشكلة وهي عبادة أبيه وقومه للكواكب والنجوم :" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً".
• ثم سايرهم في الفرضية التي افترضوها ، وهي أن هذه الكواكب والنجوم هي الآلهة:
" فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي "
" فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي "
" فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ"
• ثم قام باختبار فرضيتهم والتشكيك في صحتها ، وذلك بتأمل هذه الكواكب والنجوم وحركتها ، فكان نهاية حركتها الى الأفول ، فأما عن الكوكب " فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ "
وأما عن القمر " فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"
وأما عن الشمس : " فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ "
• ثم أصدر الحكم على الفرضية ، فلما غابت هذه الكواكب والنجوم عن الأنظار ، بطل الادعاء بألوهيتها إذ كيف يكون الإله شاهدا ، ثم يصير غائبا عن هذا الكون الذي هو إلهه ، ومن الذي سيصرف أمور الكون في غيابه ؟
• ثم تاتي آخر خطوة من خطوات هذا المنهج وهي التوصل إلى حلّ المشكلة ، وما يتعلق به من النتائج وهي :
1- أن هذه الكواكب والنجوم آلهة مزعومة ، " قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ "
2- لا بد من وجود إله حق لهذا الوجود وهو الله الذي خلق هذه الكواكب والنجوم وخلق السماوات والأرض جميعا : " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"
3- من اهتدى إلى الله وآمن به فله الأمن والأمان ، ومن أشرك به آلهة أخرى كان مصيره إلى الشك والخوف :" وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿81﴾ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ "
4- الحجة والبرهان هي السبيل إلى إثبات الحق و تفنيد الفرضيات الخاطئة المزعومة
" وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ".
هذا والله أعلم