النصيحة في ديننا الحنيف هي هدية ثمينة تُقدم للمنصوح طواعية وعن طِيب خاطر مُغلفة بالبسمة والحب، تصل لصاحبها خِفية، في وقتها وزمنها المناسبين، وبالطريقة التي يُحبها.
إن النصيحة تأتي من مُحب مُخلص مُشفق بلا سابق طلب وبلا ثمن ولا عنت ولا مشقة، على أمل أن يتقبلها بصدر رحب، وبلا خجل، ودون انتظار شكر ولا ثناء على من قدمها له.
ثق أن المخلص الذي يُقدم لك النصيحة يتأوه لألمك ويغتم لهمك وغمك، كما أنه يفرح لفرحك، وأن دافعه من وراء نصيحته ابتغاء وجه الله تعالى ثم مصلحتك، وكل ذلك ليقينه أنه "مَنْ لا يهتَمُّ بأمرِ المسلمينَ فليسَ مِنهُمْ".
إن هذه الكلمات اليسيرة لوصف #النصيحة تبين مدى عظمة ديننا الحنيف، ومدى الحب الذي يربط بين قلوب أفراد المجتمع المسلم، ليكونوا كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص كما يحب ربنا ويرضى.
أولاً/ معنى النصيحة وحكمها
النصيحة هي تصفية الشيء من شوائبه وعلاج الأمر مما يعتريه من خلل، على أن يسبق النصيحة علم وإخلاص، ويصحبها صدق ورحمة، ويليها صبر وحكمة.
النصيحة لا تعترف بفوارق سنية ولا طبقية ، والنصيحة إعذار إلى الله تعالى لإبراء الذمة، وطمعاً في الثواب والخيرية التي وعد الله تعالى بها الناصحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.ولكون النصيحة وجهاً من وجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي واجبة على كل مسلم بالغ عاقل قدر استطاعته، وقد اشترط بعض العلماء أن تكون النصيحة لمسلم ولكن البعض الآخر - منهم ابن حجر - قال إنها تجب لغير المسلم وذلك بدعوته للإسلام.
وقال ابن بطَّال رحمه الله: "والنَّصيحة فرضٌ يُجْزِئ فيه مَن قام به، ويَسقط عن الباقين، والنَّصيحة لازمةٌ على قَدْر الطَّاقة إذا علم النَّاصحُ أنه يُقبل نصحُه، ويُطاع أمْرُه، وأَمِن على نفسه المكروه، وأمَّا إن خشي الأذى فهو في سعةٍ منها".
ثانياً/ النصيحة في القرآن الكريم
اشتملت سور القرآن الكريم على العديد من الآيات التي تُعظم من شأن النصيحة ومن شأن مقدميها.
ولقد بيَّنت آيات القرآن الكريم أن المَهمة الأساسية للأنبياء هي النصيحة لأقوامهم، كما بيَّنت أنه ما من أمة إلا وكان فيها من الناصحين الذين نصحوا لأقوامهم.
وفي آيات القرآن الكريم أيضاً تحذير ممن ينخرون في عصب المجتمع بكلام في ظاهره النصيحة وفي باطنه إضمار الشر والفساد. والآيات في مجال النصيحة كثيرة فكل أمر أو نهي في القرآن الكريم إنما ورد من باب النصيحة.
فعلى لسان نبي الله نوح - عليه السلام - قال تعالى: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 61، 62]
وعلى لسان نبي الله هود - عليه السلام - قال تعالى: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 67، 68]
وعلى لسان نبي الله صالح - عليه السلام - قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]
والآيات في هذا الشأن كثيرة، منها نصيحة نبي الله إبراهيم لأبيه، ونصيحة مؤمن آل فرعون - الذي كان يكتم إيمانه - لقومه، ونصيحة مؤمن آل ياسين … الخ.
وآيات القرآن الكريم تبين لنا أن الناصح الأمين يكون موضع ثقة واحترام غالبية من هم حوله ، لذلك قالت أخت نبي الله موسى عليه السلام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]
كما تبين لنا آيات القرآن الكريم أنه ليس كل ناصح أمين، فهناك من يلبسون ثياب الناصحين وهم ما يُضمرون بداخلهم إلا الشر.
نقل الله تعالى لنا أن الشيطان الرجيم عندما وسوس لآدم وحواء - عليهما السلام - أنه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]
كما نقل لنا حديث إخوة يوسف حين قالوا لأبيهم: {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11]
أيضا فرعون الظالم قال لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]
ثالثاً/ النصيحة في السنة النبوية المطهرة
وردت أحاديث كثيرة في السنة النبوية المُطهرة تبين أن النصيحة لها شأن كبير في الإسلام، ولأهميتها كان النبي ﷺ يُبايع المسلمين على النصيحة كما يبايعهم على فرائض الإسلام .
ولقد ضرب النبي ﷺ أعظم الأمثلة في تقديم النصيحة بصورها المختلفة (التلميح، والتصريح، والتورية، والكناية... الخ)، حسب الموقف وبما يضمن الطريقة المُثلى للاستجابة والعلاج.
1. عن تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "إن الدينَ النصيحةُ، إن الدينَ النصيحةُ، إن الدينَ النصيحةُ. قالوا: لمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: للهِ، وكتابِه، ورسولِه، وأئمةِ المؤمنين وعامَّتِهم، وأئمةِ المسلمين وعامَّتِهم" (صحيح أبي داود)
2. عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: "ما من أميرٍ يلِي أمرَ المسلمينَ، ثُمَّ لا يَجْهَدُ لهم وينصَحُ، إلَّا لم يدخُلْ معهم الجنةَ" (صحيح الجامع)
3. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي ﷺ قال: "إذا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ، وأَحْسَنَ عِبادَةَ رَبِّهِ كانَ له أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ" (صحيح البخاري)
4. عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "بَايَعْتُ رَسولَ اللَّهِ ﷺ علَى شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" (صحيح البخاري)
رابعاً/ أقوال في النصيحة وآدابها
1. قال ابن حزم - رحمه الله - في كتاب "الأخلاق والسير": "إِذا نصحت فانصح سراً لَا جَهراً، وبتعريض لَا تَصْرِيح، إِلَّا أَن لَا يفهم المنصوح تعريضك، فَلَا بُد من التَّصْرِيح...فَإِن تعديت هَذِه الْوُجُوه فَأَنت ظَالِم لَا نَاصح".
2. وقال الفُضيل بن عياض رحمه الله: "المؤمن يَستر ويَنصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر".
3. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانَه، ومن وعظه علانيةً فقد فضحه وشانه".
4. وعن الإمام الزّهريّ أن رجلاً دخل على هشام بن عبد الملك ناصحاً إياه فقال: "يا أمير المؤمنين؛ احفظ عني أربع كلماتٍ فيهنّ صلاح مُلكك، واستقامة رعيتك. قال: هاتِهِنَّ. فقال: لا تَعِدَنّ عِدَةً لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنّك المُرتقى وإن كان سهلًا إذا كان المُنحدر وعرًا، واعلم أنَّ الأعمال جزاءٌ فاتق العواقب، وأنَّ الأمور بغتاتٌ فكن على حذر".
خامساً/ ضوابط النصيحة وآدابها
• على الناصح أن يكون مُخلصاً في نيته، يبغي بنصيحته وجه الله تعالى، وطمعاً في ثوابه سبحانه، وأن يكون متواضعاً، وأن يطلب العون والتوفيق من الله تعالى.
• أن يكون الناصح مُلماً بما سينصح به، وبطبيعة من سينصحه ومكانته وفضله، وأن يتزود من العلم الشرعي ما يُقوِّي حُجته ويسدِّد رأيه ويشرح به صدر من سيقدم نصيحته له، كما عليه أن يوفر في نفسه الأهلية لهذا الأمر، ما استطاع إلى كل ذلك سبيلاً.
• أن يكون الناصح رحيماً بمن ينصحه هيناً ليناً بشوشاً سمحاً؛ كي لا يُعين الشيطان على المنصوح فينفر ويجنح، فلا يسمع ولا ينتصح ولا يتعظ.
• أن يُحسن الناصح اختيار الزمان والمكان والأسلوب المناسبين للمنصوح ليكون ذلك أدعى للاستجابة والامتثال للنصيحة.
• أن يحرص الناصح على التلميح قبل التصريح، والموعظة الحسنة قبل المُجادلة، والسِّر قبل العلانية، إلا أن يكون المنصوح ظالماً مُتعدياً مُتجاوزاً مُرتكباً ما يفتن العامة، فهذا تجب مُحاجته ومُناظرته وإبطال حُجته وتفنيد رأيه أمام الناس حِفاظاً على عقيدتهم وإحياءً لسنة "قول الحق عند السلطان الجائر".
• أن يحرص الناصح على كتمان سر المنصوح فلا يُفشي له سِراً ولا يكشف له سِتراً ولا يفضح له أمراً مهما كان الأمر طالما أنه في إطاره الشرعي الذي لا تضيع معه للعباد حقوق في النفس ولا في المال ولا في العرض.
• إذا تعددت خطايا ومعاصي المنصوح فعلى الناصح البدء ببعض محامده مثل الكرم أو الشهامة أو الغيرة على أهله؛ كي يستميل قلب المنصوح وكي لا يقنط من رحمة الله تعالى، كما عليه أن يبدأ بأخطر المعاصي على العقيدة وأكثرها أذى للنفس وللعباد فربما أدى الإقلاع عن معصية واحدة إلى تمام الصلاح والهداية.
• أن يراعي الناصح عدم الإكثار من تتبع العاصي ولا ملاحقته ولا التضييق عليه، فالإفراط في تناول الدواء ربما كان له من الضرر أكثر من عدمه، ولقد كان النبي ﷺ يتخول أصحابه بالموعظة خشية السآمة والملل.
قيل لعَقِيل بن عُلَّفة: "لم لا تُطيل الهجاء؟ قال: يَكفيِك مِنَ القِلادة مَا أحَاط بالعُنق".
• أن يحرص الناصح على التزود بمهارات التنمية البشرية التي من شأنها ترتيب الخطوات واختصار الأوقات ومعرفة أسرار القلوب وأبوابها، فإذا توفرت كل الجوانب الشرعية السابقة مع اكتساب المهارة يكون ذلك أدعى لتهيئة المنصوح ومساعدته على سرعة الاستجابة والانقياد للنصيحة دون تأفف ولا ضجر.
• إذا وُفق الناصح فيما قام به فلله وحده الحمد والفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فليصبر وليجدد نيته وليشحذ همته وليغير أساليبه وليزدد من الله تعالى قرباً وبه استعانة.
تلك عشرة كاملة، بها وبغيرها من الأسباب يُمكن بفضل الله تعالى وحده أن نغزو القلوب وأن تلين لنا المشاعر وتنقاد لنا الجوارح فيكون المنصوح أدعى للاستجابة والتوبة والإنابة.
همسة في أذن المنصوح
• تقبَّل النصيحة بأي وجه، ولا تعاند ولا تتكبر ولا تكن ممن قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]
• لا تصر على المعصية واعلم الرجوع إلى الحق فضيلة وأن الاعتذار من شيم الكبار والاستغفار من شيم الصالحين.
• كن لبيباً فطناً واحذر أصحاب النصائح السلبية الذين يُغلِّفون نصائحهم بمعسول الكلام وفي حقيقة الأمر أن نصائحهم أشد خطورة من السم الزعاف.
• أذكرك بما قاله الإمام علي رضي الله عنه: "الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله"
• عليك بشكر من قدم لك النصيحة امتثالاً لما جاء في الحديث الشريف: "مَن لا يشكرُ النَّاسَ لا يشكرُ اللهَ" (سنن الترمذي)، وكما قيل: "رحم الله رجلاً أهدى إلى عيوبي"
يقول طرفة بن العبد
إذا كنتَ في حاجة ٍ مُرسلاً : : فأرْسِلْ حَكِيماً، ولا تُوصِهِ
وإنْ ناصحٌ منكَ يوماً دنَا : : فلا تنأَ عنه ولا تُقْصهِ
وإنْ بابُ أمرٍ عليكَ التَوَى : : فشاوِرْ لبيباً ولا تعصهِ
وأخيراً أقول
إننا لو فهمنا هذا الفهم وطبقناه كما ينبغي، لساد بيننا الحب، ولتخلصنا من عيوبنا، فقويت أواصرنا، وسلمنا وغنمنا.