لقد وضع عالم الاجتماع الجزائري مالك بن نبي الذي نجح في الجمع بين فهم مقاصد الإسلام الحضارية والوعي بالواقع مع استيعاب فائق لسنن التغيير وأسباب النهوض ثمانية معادلات للإقلاع الحضاري في عالمنا الاسلامي، إحداها معادلة الواجبات و الحقوق.
*القوة الرافعة = الواجبات – الحقوق*
إن خط الصعود الحضاري ومنحناه يرتبط دائما بمعادلة الحقوق والواجبات،
*فالمجتمع الصاعد* هو الذي يتسابق أبناؤه لأداء واجباتهم دون السؤال عن حقوقهم،
*والمجتمع المستـقر حضـارياً* - وهـو الذي وصل إلى ذروته الحضارية وتوقف - هـو الذي تتوازن فيه الحقـوق والواجبـات،
*أما المجتمع المنحدر* هو الذي يتسابق أبناؤه للبحث عن حقوقهـم دون القيام بواجباتـهم فهو المجتمع الذي يسير في منحنى الهبوط.
هنا تكمن واحدة من أخطر مشاكل العالم العربي وهي حرص أبنائه على المطالبة بحقوقهم قبل أن يقوموا بواجباتهم متناسين واحدة من أهم القواعد الاجتماعية التي تنص على أن *" الحقوق ليست هدية تعطى و لا غنيمة تغتصب, و إنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب, فهما متلازمان"* كما يقول مالك بن نبي.
قيل لإبراهيم ابن أدهم: غَلَت الأسعار، فقال: *والله ما يهمني لو كانت حبة القمح بدينار، عليَّ أن أعبده كما أمر (واجب) ، وعليه أن يرزقني كما وعدني (حق).*
لقد لخص ابراهيم بن أدهم الفهم الحقيقي لمعادلة الحقوق و الواجبات تفسير مختصر شامل وهي *أدِّ واجباتك, تضمن حقوقك.* فليست هناك علاقة بين طرفين يختص أحدهما بالحقوق، ويحرم منها الآخر، وحتى بالنسبة لله تعالى وهو الخالق المتفضل على عباده، فقد وعد المؤدي لحقه تعالى في العبادة والخضوع بالجزاء والثواب.
إن نقطة البداية لبناء علاقة صحيحة ناجحة مع الآخر وبناء مجتمعات متقدمة متطورة، يجب أن تنطلق من المبادرة لأداء الحقوق المتوجبة على الانسان، مما يلزم الآخر ويشجعه على التعامل بالمثل، وحينئذ تنتظم العلاقة وتستقيم. ومعنى ذلك أن يفكر الإنسان في الواجبات التي عليه، قبل أن يفكر في الحقوق التي له، وأن ينجز ما عليه، قبل أن يطالب بما له. إن على الإنسان أن يبدأ من نفسه فيلزمها بأداء حقوق الآخرين قبل أن يطالب الآخرين بحقوقه.
لقد خاطب الامام علي رعيته في بداية حكمه فقال: «ولكم عليً من الحق مثل الذي لي عليكم، فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له. ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، و لعدلـه في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه، وتوسعاً بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض».
إن مشكلة الأكثرين في مجتمعاتنا أنهم يتجاهلون ويتناسون ما عليهم من واجبات، ثم يتجهون ويطالبون بما لهم من حقوق، وهذا الخلل هو نتيجة طبيعية و حتمية للخلل في البناء الاخلاقي للانسان العربي أولا و غياب التطبيق العادل و الشفاف للقوانين التي تعاقب على الاخلال بالواجبات الشخصية و المجتمعية ثانيا.
ومن أجل أن يكون الانسان مهتماً بأداء واجباته كاهتمامه بأخذ حقوقه ينبغي أن يتم المزاوجة في بناء شخصيته بين الفكر والروح، فأداء الحقوق عملية ليست بسهلة لانها تعني تحمل المسؤولية عن هذه الواجبات, ذكر الله الابناء بحقوق الوالدين في أكثر من موضع و قرن عبادته ببر الوالدين (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً), فإن كان الانسان يحتاج لتوصية شديدة من الله عز وجل بأن يقضي ما عليه من حقوق لوالديه وهذه حقوق واضحة كشمس الظهيرة فمابالك بالحقوق الاخرى.
ان التربية النفسية، والبناء الأخلاقي لشخصية الإنسان، تحتاج الى التذكير بالقيم والمبادىء، وإنها يجب أن تكون المقياس والمحور لمواقفه وتصرفاته، وليس مصالحه الذاتية الدنيوية.*
ومن أهم هذ القيم و المبادىء التي تدفعه لتقديم واجباته على حقوقه هو استشعار المسؤولية الفردية امام الله عز وجل, ففي ترتيبات المنطق الإيماني للحساب
*أن الإنسان سيبعث وحده* {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}
*وسيسأل وحده عما سعى* {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
*وسيتحمل وحده تبعات ما اكتسب* {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}
وفي الحديث القُدُسيّ: *"يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ" (مسلم).*
فهذا المنطق الايماني يجب أن يدفع الانسان الى القيام بواجباته قبل المطالبة بحقوقه*
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ "، إن رسول الله قد اشار الى وجوب اداء الامانة وهي كل شيء لزمك أداؤه مادياً و معنوياً, هذا هو واجبك تجاه الاخر فلا تعامله بمعاملته و لا تقابل خيانته بخيانتك, فلقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن نقوم بما علينا حتى لو قصر الاخرون بحقنا.
دعونا نبدأ بأنفسنا احبائي, و لنتأكد أن من يقوم بواجبه حتى لو قصر الاخرون تنشق له السماء ويأتيه حقه، فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب، وهو أول ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه، فكانوا رضوان الله عليهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، و كانوا حريصين على اداء واجباتهم تجاه الله اولا, و الاخرين ثانيا ومجتمعهم ثالثا و أنفسهم رابعا.