ما من دولة إلا وبها رموز تعيش شامخة أبية لا تفرط في كرامة، ولا تتنازل عن مبدأ، ولا تقبل الضيم ولا الدنية، وتموت كما الأشجار واقفة حتى لا تُملى عليها شروط مجحفة تنال من عزتها وكرامتها.
إن شيخ المجاهدين عمر المختار واحد من بين هؤلاء، بل من أبرزهم شأناً، وأقواهم شكيمة، وأشدهم صلابة في الحق، ولما لا! وهو الذي ظل عقدين كاملين من الزمان يقاوم المحتل الإيطالي بأقل الأعداد وأبسط الإمكانيات مقارنة بإمكانيات المحتل الإيطالي الغاشم.
أولاً: محطات من حياة الشيخ عمر المختار قبل الاحتلال الإيطالي لليبيا.
ولد شيخ المجاهدين عمر المختار عام 1858 في قرية زاوية جنزور في برقة شرقي ليبيا.
تربى عمر المختار يتيماً حيث توفي والده وهو في طريقه إلى مكة المكرمة بصحبة زوجته عائشة بنت محارب.
توجه عمر المختار منذ نعومة أظافره لتعلم القرآن الكريم في زاوية القرية، وبعد أن أتم عمر المختار حفظ القرآن الكريم توجه إلى واحة جغبوب، معقل الدعوة السنوسية، حيث درس الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية على أيدي كبار مشايخ الدعوة وعلى رأسهم الشيخ المهدي السنوسي.
وفي سنة 1897 كلَّف الشيخ المهدي السنوسي تلميذه عمر المختار بالتوجه إلى بلدة زاوية القصور بمنطقة الجبل الأخضر ليكون شيخاً لها.
لبَّى عمر المختار طلب شيخه وتوجه إلى بلدة زاوية القصور، وهناك حصل على لقب "سيدي" الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ الحركة السنوسية الكبار.
بعد أن نجح عمر المختار في مهمته في بلدة زاوية القصور تم تكليفه بالتوجه إلى السودان ليكون نائباً عن المهدي السنوسي في السودان، فلبى المختار الأمر وذهب إلى السودان حيث أقام في منطقة "قرو" غربي السودان وتم تعيينه شيخا لزاوية "عين كلك".
وبعد وفاة محمد المهدي السنوسي عام 1902، عاد عمر المختار إلى برقة ليعيَّن مُجدداً شيخاً لبلدة زاوية القصور.
ثانياً: نبذة عن بداية التاريخ النضالي للشيخ عمر المختار
إن التاريخ النضالي للشيخ عمر المختار لم تكن بدايته مقاومة الاحتلال الإيطالي لليبيا، ولكن سبق ذلك بسنوات محطات من النضال البطولي المشرف لمؤازرة دول الجوار (تشاد ومصر والسودان) ضد الاحتلال البريطاني والاحتلال الفرنسي.
1- عندما بدأ الاحتلال الفرنسي لتشاد عام 1900 قام الفرنسيون بمناهضة الحركة السنوسية حتى يمنعوها من مؤازرة تشاد، فقامت الحركة السنوسية بشن الهجوم ضد الفرنسيين، وكان عمر المختار ممَّن اختيروا لقيادة كتائب الحركة في ذلك الوقت.
2- قام الشيخ عمر المختار بالمشاركة في مقاومة جيوش الانتداب البريطاني وذلك على الحدود المصرية الليبية، في مناطق البردية والسلوم ومساعد، خصوصاً معركة السَّلوم في عام 1908 التي انتهت بوقوع السَّلوم في أيدي البريطانيين.
3- شارك الشيخ عمر المختار في القتال الذي نشب بين السنوسية والفرنسيين في المناطق الجنوبية في السودان.
ثالثاً: محطات من التاريخ النضالي للشيخ عمر المختار ضد المحتل الإيطالي
ظن الإيطاليون أن قيامهم باحتلال ليبيا سيكون مجرد نزهة إلى بلاد ستتلقاهم بالورود ليخلصوها من الحكم العثماني، ولكن عقب احتلال الإيطاليين لليبيا عام 1911 فوجئوا بمقاومة عنيفة وشرسة من قبل السنوسيين، هذه المقاومة أفشلت محاولات الإيطاليين في السيطرة التامة على البلاد، وكبدتهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، ولم يتمكنوا من تحقيق مخططهم حتى عام 1931 عندما أسروا وأعدموا قائد المقاومة السنوسية شيخ المجاهدين عمر المختار، رحمه الله.
إن المقاومة العنيفة والمستميتة من المجاهدين الليبيين بقيادة الشيخ عمر المختار الذي كان يبلغ من العمر 53 عاماً اضطرت ديكتاتور إيطاليا الفاشي، موسوليني، إلى ترحيل 100 ألف ليبي من المناطق التي تعد معاقل للمقاومة إلى معسكرات اعتقال مات فيها الآلاف من الشعب الليبي.
من أبرز المعارك التي شنتها المقاومة بقيادة المختار ضد القوات الإيطالية، معركة درنة في مايو عام 1913 والتي انتهت بمقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400 آخرين، ومعركة بوشمال في أكتوبر عام 1913 أيضاً، فضلا عن معارك أم شخنب وشلظيمة والزويتينة في فبراير عام 1914م.
وأمام النضال الأسطوري المستمر والمتصاعد للمقاومة الليبية اضطر موسولينى إلى تعيين الجنرال بادوليو حاكماً عسكرياً لليبيا في يناير عام 1929.
أعرب بادوليو عن رغبته في التفاوض مع الشيخ عمر المختار الذي بدوره استجاب لذلك وتم إبرام هدنة مدتها شهرين مقابل انسحاب الإيطاليين من جغبوب، والعفو العام عن كل المعتقلين السياسيين وإطلاق سراحهم.
عندما ماطل الإيطاليون في تنفيذ بنود الهدنة أدرك الشيخ عمر المختار أن الإيطاليين ما يريدون بالهدنة سوى كسب الوقت لترتيب صفوفهم فقام بتصعيد عمليات المقاومة ضد المحتل الإيطالي.
أمام تصعيد المقاومة، وإخفاق بادوليو في كسر شوكتها، قام موسولينى بعزله وتعيين الجنرال غراتسيانى بدلاً منه.
في عام 1931 سقطت منطقة الكفرة بأيدي الإيطاليين الذين شددوا ضغوطهم على الشيخ عمر المختار.
وفي 11 سبتمبر 1931 نجح الإيطاليون في أسر الشيخ عمر المختار بعد معركة قتل فيها جواده وتحطمت نظارته.
وبعد أسر الشيخ عمر المختار بثلاثة أيام وتحديداً في 14 سبتمبر 1931 وصل القائد الإيطالي غراتسياني إلى بنغازي، وأعلن على عجل انعقاد المحكمة الخاصة يوم 15 سبتمبر 1931 وفي الساعة الخامسة مساء اليوم المحدد لمحاكمة عمر المختار صدر الحكم بإعدام عمر المختار شنقاً.
أحضر الإيطاليون عمر المُختار مُكبَّل اليدين، وتم تسليمه إلى مقصلة الإعدام، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات الإيطالية تحلق فوق ساحة الإعدام على انخفاض ملحوظ، وبصوت مُدوِّي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلامًا يسمعونه، لكنه لم يتحدث، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين.
تم تنفيذ الحكم بإعدام الشيخ عمر المختار شنقاً، وكان ذلك في صباح يوم 16 سبتمبر 1931، وكان الشيخ عمر المختار يبلغ في ذلك الوقت 73 عاماً.
رابعاً: من هو الشخص الذي تولى مهمة شنق عمر المختار!!
قام بشنق الشيخ عمر المختار أحد الأشخاص الليبيين وكان يُدعى عبد السلام اللونقو.
كان "عبد السلام اللونقو" يقطن بمنطقة البركة، وكان معروف عنه أنه شخص فظ غليظ بالإضافة لكونه ماجن وعربيد.
في نهاية حياته عاش "عبد السلام اللونقو" بائساً وحيداً ومدمناً للخمر إلى أن عثر عليه ميتاً في إحدى حظائر الحيوانات في منطقة الصابري ببنغازي عام 1957.
لم يكتشف أحد موت "اللونقو" إلا بعد أن تعفنت جثته فرفض الأهالي دفن جثمانه أو المشي في جنازته حتى تحللت جثته فأضطر جيرانه إلى أن يقوموا بإلقائها في البحر، كما قاموا بحرق كوخه الذي كان يسكن فيه بسبب نتانة رائحته.
إن ما فعله "عبد السلام اللونقو" وما يفعله أمثاله يثبت حقيقة لا شك فيها وهي أن العار أطول من العمر، وأن لعنة اضطهاد الصالحين تطارد الظالمين في حياتهم وبعد مماتهم .
خامساً: حال المجاهدين والمقاومة الليبية بعد إعدام الشيخ عمر المختار
بعد إعدام الشيخ عمر المختار عملت إيطاليا على قتل الروح المعنوية لدى المجاهدين وإقناعهم بأنه لم يعد هناك جدوى من المقاومة، إلا أن المجاهدين وحَّدُوا صفوفهم وانتخبوا الشيخ يوسف بورحيل المسماري ليكون قائدًا للجهاد والمقاومة خلفاً للشيخ عمر المختار.
أمام إصرار المجاهدين على مواصلة النضال ضد المحتل الإيطالي قامت الحكومة الإيطالية بشن حملات انتقامية ضد المجاهدين، حتى كانت المعركة الحاسمة عند الحدود المصرية قرب الأسلاك الشائكة حيث نتج عن هذه المعركة فرار المجاهدين عبر الأسلاك الشائكة، وقتل وأُسر عدد كبير من المجاهدين.
وبهذه النهاية المأساوية تم إخماد حركة الجهاد في ليبيا، واستتب الأمر لإيطاليا لفترة حرصت فيها على محاربة الإسلام وكل مظاهر التدين بين الليبيين، بل والعمل على تغيير هوية الشعب الليبي، وذلك على مدار 11 عامًا.
ومع بدء الحرب العالمية الثانية انشغلت إيطاليا بالحرب، وخرجت منها خاسرة، وانسحبت انسحاباً كاملاً من ليبيا في 7 أبريل عام 1943.
بعد انسحاب المحتل الإيطالي من ليبيا عادت البلاد إلى قيادة السنوسيين وصار اسم الشهيد عمر المختار رمزاً للجهاد ضد العدوان الأجنبي.
سادساً: من أقوال الشيخ المجاهد عمر المختار رحمه الله
- نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت.
- إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح.
- إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن وليس لنا أن نختار غير ذلك إنا لله وإنا إليه راجعون.
- كن عزيزاً وإياك أن تنحني مهما كان الأمر ضرورياً فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة أخرى.
- سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي.
- حينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أنهكت قواه، ولكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النهاية.
- المعركة التي تنتصر فيها وحدك, لا تحتفل بها مع الذين تخلوا عنك وأنت تحت ضرب السيوف.
- صاحب الحق يعلو وإن أسقطته منصة الإعدام.
- يستطيعُ المدفع إسكات صوتي، ولكنه لا يستطيع إلغاء حقي, وأنا على يقين أن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي.
- يمكنهم هزيمتنا إذا نجحوا باختراق معنوياتنا.
- أموالكم تماما مثل مجدكم ليست خالدة.
- نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد تلو الآخر ولا نسلم أو نلقي السلاح.
- الظلم يجعل من المظلوم بطلاً، وأما الجريمة فلا بد من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء.
وختاماً:
إن حياة المجاهدين الأفذاذ هي الزاد الذي عليه تتربى الأجيال، وهي السراج الذي يُضيء للأجيال غياهب الطريق فلا يتنكبوا الطريق ولا يحيدوا عنه ، وتظل سلسلة الجهاد والمجاهدين موصولة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.اللهم تقبل سعي وجهاد عمر المختار، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله