قدر على الإنسان أن يحيا هذه الحياة ويعيش ظروفها بمرها وحلوها فهي ممر العبور لدار خلده وبقائه، درب كتب عليه أن يسلكه لا بديل آخر عنه وسفر لا بد من تكبد صعابه للوصول إلى وجهته ودار قراره، وأي سفر في حياتنا هذه التي نكابدها مهما طال أو قصر لا بد من اصطحابنا فيه لأمرين، أولهما الزاد وثانيهما الصبر.
ففي أي سفر يسلكه المرء الكيس من يتزود له إذ لا بد من لقيمات يقمن الجسد ومن ثم صبر وقدرة تحمل على وعثاء سفره وما فيه من إرهاق وتحمل أعباء ومشاق رحلته بغض النظر إن كانت فسحة أو سفر عمل.
هذا في حياتنا الدنيا وفي التنقل ما بين أمصارها فما بالك برحلة تستغرق عمرك كله وتنتقل بك من عالم لعالم آخر لا تشابه بينهما إلا بالمسميات، عالم استقرارك فيه أبدي سواء كان في نعيم أو شقاء.
فإذا كان السفر في هذه الدنيا الفانية والتنقل في حدودها يأخذ منا كل هذا الحيز والاهتمام بالاستعداد له على أكمل وجه، فتجد نفسك تعد الزوادة من مأكل ومشرب وملبس وتصبر نفسك كلما واجهتك الصعاب بلقاء حبيب أو صحبة قريب أو تمني النفس وتشغلها عن الالتفات للعثرات بما ينتظرك من عمل مرموق أو مكانة شريفة سيؤول إليها تعبك وكدك في نهاية هذا السفر، أما كان الأولى أن يحظى سفرنا لدار خلدنا ومقامنا الأبدي باهتمام يفوق اهتمام سفرنا الدنيوي؟!
عجبت لمن كان هذا حاله في حياة لا تخلو من المنغصات ولا تدوم له على حال ولا تثبت على وجه بل دوام البقاء فيها على حال فيها محال وما شواهد وأنصبة الأضرحة التي نمر بها في تنقلاتنا إلا خير دليل على زوالها وفراق الأحبة ممن سبقونا وصاروا في باطن الأرض بعد أن كانوا على ظاهرها إلا عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكيف كل من يخالط هذا ويمر به يغفل عن سفره الحقيقي وينشغل عن التزود بما لا بد له منه في رحلة انتقاله من حياة الفناء إلى دار البقاء.
والمسافر الحقيقي بل المهاجر من داره هذه لداره الأخرى يدرك حقيقة أنه أحوج للتزود من صاحبنا المتنقل في حياته، بل مما لا يسع العبد تركه في سفره لدار الآخرة والاستغناء عنه كالغذاء والدواء فهو أحوج إليه من أي مسافر آخر فشرف سفره هذا لا يضاهيه شرف ومآله لا سبيل للمقامرة أو المغامرة به، فأما الغذاء فالتقوى وهو خير زاد بل أصل كل زاد وأما الدواء فالصبر على الضراء والسراء وكان لزامًا على العبد أن ينظمهما في عقد يجمع ويؤلف بينهما وهو الشكر إذ إن كلاهما عطاء ومنة من الوهاب لمن صحبهما في سفره، إذ تخيل الدرب من غير زاد تتقوى به في سفرك أو دواء تعالج به ما قد يصيبك من علل وأدواء.
أما الغذاء فقد وجدت القرآن الكريم يتحدث عنه في قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ} [البقرة:197]، وهذه الآية الكريمة جاءت في الحديث عن الحج ومعروف أن رحلة الحج من الأمور الشاقة فأرشدهم الله ليتقووا خلالها بالتزود بالغذاء، فإذا كان هذا في سفر الدنيا فإن التزود لسفر الآخرة لا يقل عنه في الأهمية فقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، كما قال: {وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدًا إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع، والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا وأنفع" (تفسير ابن كثير).
فالتقوى تقيك من مصارع الشبهات والشهوات وعللهما إذ أنهما أصل لكل داء قد يصادفنا فلو نظرت لكل ما يعيق ويعرقل مسيرتنا لوجدته لزامًا يعود لشبهة غشت بصر المرء وبصيرته أو شهوة اشتدت نوازعها على إرادته وعزمه، والتقوى حصنك الذي يحميك من هذه وتلك فهو بصرك وبصيرتك وبنفس الوقت صمام الأمان لك من مزالق الشهوات التي قد تغافلك.
وأما الدواء فالصبر إذ هو خير علاج تباشر به عللك وأدواءك، فالمسافر يحتاج أن يصبر نفسه في تلك الفترات التي يمر بها في سفره على الواحات الغناء؛ كي لا يركن إليها وتشغله عن بغيته ومقصده فتغرب عليه الشمس دون أن يتقدم بخطواته نحو موطنه ومجمع أحبابه وأصدقائه كما يحتاجه ليعلل النفس ويصبرها على وعثاء السفر ومعيقاته فلا تركن للضعف ولا لليأس.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الصبر تحتاجه في كل مراحل حياتك وظروفك؛ فالصبر نوعان صبر على السراء وآخر على الضراء، فأما صبرك على السراء فهو دوام شكر الوهاب عليها وحسن استقبالها وأداء الحقوق فيها سواء كانت مالية أما جسدية أو أي شكل آخر تجلت به، وأما صبر الضراء يكون برضاك وتسليمك بما قدر الله عليك من صحة أو مال أو فقد عزيز، ولن تستطيع اجتياز حياتك بغير زاد ودواء وإلا ظللت يا مسكين تعاند الأقدار وتصارعها ومن يصارعها قصمت ظهره وما نال إلا السخط وخرج من دنياه خاسرًا خائبًا لتكون نهايته أشد إيلاما وأكثر خسرانًا.