الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه..
يتساءل الكثيرون بدهشة واستغراب، عن السرعة الهائلة التي تمت فيها الفتوحات العظيمة في صدر الإسلام، على الرغم من بدائية وسائل الحركة والانتقال حينذاك. وكيف استطاع ذلك الجيل الرباني من أبناء صحراء شبه الجزيرة العربية، وفي أقل من عقدين من الزمان، إسقاط أكبر إمبراطوريتين في ذلك العصر (الفرس والروم) والوصول بعدها بقليل، إلى غرب الصين وجنوب فرنسا!
حالة مثيرة لم تتكرر ولم يحدث مثيلٌ لها، حتى في عصرنا الحالي الذي أضحى كقرية صغيرة، بسبب التكنولوجيا الحديثة في وسائل النقل والاتصال والحواسيب، بالإضافة لما يمتلكه من أدوات الحرب والتدمير.
أعتقد أن من أنجزوا هذه الفتوحات العظيمة، كانوا يملكون أمرين في غاية الأهمية، أولهما: وضوح ورسوخ فكرة المشروع الذي يحملونه، وثانيهما الإيمان العميق الذي عمّر قلوبهم وصاغ نفوسهم.
من أنجزوا هذه الفتوحات العظيمة، كانوا يملكون أمرين في غاية الأهمية، أولهما: وضوح ورسوخ فكرة المشروع الذي يحملونه، وثانيهما الإيمان العميق الذي عمّر قلوبهم وصاغ نفوسهم
لقد فهم الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان، من أهل خير القرون، أنهم خلفاء الله في الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة)، وأن رسالة المستخلَف ومشروعه في هذه الحياة، تتمثل بسعيه الدائب، وجهاده المتواصل، لإقامة دين الله في الأرض، بكل ما يشتمل عليه هذا الدين، من مبادئ سامية، وقيم عظمى، تكفل لمن يتّبعها سعادة داري الدنيا والآخرة.
ولله در "ربعي بن عامر" الذي ضرب أروع الأمثال في وضوح الرسالة والمشروع وقوة الإيمان وشخصية المؤمن.
ففي العام الخامس عشر للهجرة أرسل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب جيشاً تعداده 36 ألفاً بقيادة سعد بن أبي وقاص لمواجهة جيش الفرس الذي كان يربو عدده على مئتي ألف مقاتل بقيادة رستم، ويبدو أن رستم ولاعتبارات عسكرية معينة كان يريد تأجيل موعد المعركة أو كسبها بدون قتال، فأرسل إلى سعد بن أبي وقاص، أن ابعث لنا وفدا للتباحث من خلاله معكم فأرسل له وفداً من "ثلاثة" برئاسة "ربعي بن عامر"، وعندما وصل "ربعي" وصحبه إلى موقع قائد الجيش "رستم"، طلب منهم حرسه الدخول دون خيلهم وأسلحتهم، فقال لهم "ربعي" نحن لم نطلب أن نأتيكم، وإنما أنتم الذين دعوتمونا فإما أن ندخل بخيلنا وسلاحنا وإلا فسنرجع إلى موقعنا، فأذن لهم رستم بالدخول بتلك الحالة، وانقلبت محاولته لإصابتهم بالهزيمة النفسية من فخامة الديوان وقوة الحرس، إلى تحقيرِ لتلك المظاهر الفارغة، وانقلاب السحر على الساحر. ثم دار بين "رستم" و "ربعي" بحضور كبار قادة وحرس "رستم" الحوار التالي:
رستم: ما جاء بكم ؟
ربعي: لقد ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر.
رستم: قد تموتون قبل ذلك.
ربعي: لقد وعدنا الله عز وجل بالجنة لمن مات والظفر لمن بقي.
رستم: قد سمعت مقالتك، ولكننا نريد وقتاً لاستشارة قادتنا في الأمصار.
ربعي: لقد سن رسول الله لنا أن لا نؤخر لقاء عدونا أكثر من ثلاثة أيام حتى لا يتمكنوا منا ويتداركوا أمرهم، وأنا كفيل لك عن قومي، أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع.
رستم: أسيدهم أنت؟
ربعي: لا بل أنا رجل من الجيش، ولكن أدنانا يُجير على أعلانا.
وكما يقال "يُقرأ المكتوب من عنوانه" فإن قوماً أميرهم عمر بن الخطاب، وقائد جيشهم سعد بن أبي وقاص، وأفراد جيشهم مثل ربعي بن عامر، هو عنوان بارز لقصة انتصار عظيمة في معركة القادسية الفاصلة، والتي فتحت الطريق لفتوحات عظيمة وشامخة بفضل من الله وتوفيقه.
فيا خبراء الاستراتيجيات والموارد البشرية ادرسوا بعمق خصائص هذا المشروع العظيم، وخصائص من حملوه بصدق، من عظماء تاريخنا الإسلامي المجيد ففي ذلك فوائد ودروس عظمى لصناعة مستقبلنا التليد المأمول.
{والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}