تأمل في الرسم أدناه:
انظر للتداخلات بين الأسهم، ثم انظر لبداية كل سهم ونهايته، تجد أنّ التداخلات بين الأسهم عبارة عن التقاءات سطحية وليست تقاطعات حقيقية، فلا تخفى على الناظر اليَقِظ معالم الحدود الواضحة بينهما مهما تشابكت ظاهرًا، ثم تلك التداخلات -على كثرتها- لا تجعل الأَسهُم كِيانًا واحدًا مندمجًا، ولا تؤدي لاتفاقها أبدًا في منبع البداية ولا وِجهة النهاية، بل إنّ كلّ سهم نَبَع من مُنطلق مغاير تمامًا للآخر، ويؤدّي لمُنتهى مخالف تمامًا للآخر.
هذا تمثيل تصويريّ لخلاصة العلاقة بين التصوّر الشرعي للوجود كما أراده خالقه - جلّ وعلا - وأخبر به، ومختلف التصورات البشرية والفلسفات الوجوديّة المُبتَدَعة أو المُحرَّفة من المخلوقين، وحدها عقيدة الإسلام لله تنزّلت رأسًا من السماء، بينما كل التصورات البشرية على اختلافها نَبتَتْ فرعًا من الأرض ، وبناء على اختلاف المنشأ، تتباين الوجهة التي ينتهي لها كلا التصوّرين، والغاية أو المآل اللذان يدفعان لهما معتنقهما.
وفي عصر العلم السيّال أو السيولة العلمية هذا، ابتَلَعنا خِضَمٌّ عاتٍ من المستوردات الثقافية المنهالة علينا من الشرق والغرب، خاصة في ظلِّ سطحيّة علمنا بديننا وهشاشة بِنيَتِنا الإيمانية وهُلاميّة تصوّرنا المُسلِم للوجود، وانبهرنا انبهارًا ساذجًا بالالتقاء السطحي أو التّماسِّ العابر في بعض مفاهيم واصطلاحات وأفكار، بين ما نعلمه من تصوّر الإسلام وما وصلنا من التصورات البشرية، فتوهّمنا أنّ ذلك التماسّ يعني تقاطعًا مُشتركًا ومساحات تماثل حقيقي، ومع استمرار انهمار المستورد الدخيل وازدياد الجهل بالأصل الأصيل، أخذت تَرِقُّ في عين الناظر المسلم وفهمه معالم الحدود الفاصلة بين الكِفّتين، ثم تنطمس وتتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى بدا له أخيرًا ألَّا كبيرَ فَرقٍ بين تشريع السماء وتشريع الأرض! فصار الإسلام في تقدير المسلم المعاصر عامّة لا يعدو ثقافة من بين ثقافات أخرى، واعتقادًا من بين اعتقادات عديدة ، تتشارك كلها في "فكرة الإله" بشكل ما، وتدعو لمكارم الأخلاق الفطريّة والعمومية بين كل البشر بدرجة ما، وتشجع على الوئام الحضاري والسلام الكوني لحدّ ما، وتقرّ الحقوق العالمية لكل الناس... إلخ، فلا بأس في هذا الثراء الفكري والتنوع الثقافي، وكلّ ينتقي ما يعجبه بأريحية وبساطة!
أعظم مكامن القلقلة والخلل هي في أن يستقر مثل ذلك المنظور الوجودي غير المسلم عند الناظر المسلم! فكأنّ العمى والإبصار عند المسلم سِيّان
وحقًا! لا إشكال في ذات التشابك الثقافي والتداخل الحضاري مع التصوّرات الأخرى، لكن الإشكال كلَّ الإشكال في ذات انطماس معالم الفروق بين الكِفّتين كما ذكرنا، وأعظم مكامن القلقلة والخلل هي في أن يستقر مثل ذلك المنظور الوجودي غير المسلم عند الناظر المسلم! فكأنّ العمى والإبصار عند المسلم سِيّان! لذلك يكون تأثر المسلم المعاصر غالبًا بأيّ آخَرٍ من أيّة مِلّة أو ثقافة تأثّرًا غير سَوِيّ، وأَخْذُه عنه غير صحيح، بل وتأثراً مُضِرًّا له؛ لأنه يزيده التباسًا في الفهم عند محاولات الأسلمة الهزيلة للثقافات المستوردة، وتَخبّطًا في التطبيق عند محاولات التوفيق الحائر بين متناقضات سببها اختلاف المنطلق وافتراق المنتهى.
وأُولى مبادئ إصلاح هذا الخلل البدء من المنطلق والانطلاق من الجذور، وترك منهجية الردود على الشبهات المعجونة نهاية، لمنهجية تصحيح التصورات المُعوَجّة بداية ، وذلك بفهم التصور الشرعي للوجود أوّلًا على وجهه كما أراده وأراد به خالقه، بما ينفي ثلاثة أرباع ذلك العجين والاعوجاج، الناشِئَيْن من الجهل وسوء الفهم حقيقة ليس إلا، ثم يكون بعد ذلك البناء على التصور الصحيح من أصوله، والتوسّع في مختلف الوجهات والمعارف على بصيرة وبَيِّنة، تؤهِّل صاحبها للانتفاع والإفادة مما لدى الغير، دون أن يتزعزع تصوّره الأصلي أو تنطمس هُوّيته الأصيلة.