لقد كتبت حول هذا المعنى من قبل تحت عنوان (الله ليس بظالم)، وقلت إن هناك استدلالًا عقليًا منطقيًا ينفي تمامًا أن يكون الله ظالمًا بأي شكل من أشكال الظلم لأي من عبيده ومخلوقاته.
وقلت ما نصه: "نحن متفقون على أن الله قادر وأن قدرته لا تُحد بحد، وإذا تساءل متسائل وكيف نُسلّم بذلك؟ أقول: الناظر في خلق الكون والإنسان والعالم، يجد دقة مبهرة عجيبة في هذا الخلق، لا يُصدق معها إلا أن تكون قدرةٌ مطلقة غير محدودة بحد هي التي وقفت وراء هذه الدقة.
ثم أتساءل: هل الظلم نقص وعيب إذا ما اتصف به متصف؟ الإجابة بالطبع: نعم.
إذن: كيف يرضى الله - تبارك وتعالى - على نفسه النقص والعيب بأن يتصف بالظلم، في حين أنه قادر على أن يكون كاملًا غير متصف بأي نقص وعيب، وهو القادر على كل شيء كما قلنا.
إذن، الله تعالى كامل متصف بكل صفات الجلال والكمال، ويستحيل عليه النقص؛ لأنه قادر على إكماله، ومن هنا فيستحيل على الله أن يكون ظالمًا".
ثم دعاني الآن للعودة للكتابة حول الموضوع، ما قرأته في كتاب صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي، إذ يذكر في كتابه أنه رأى بعينه شيخًا يموت، ويقول عند موته "لقد ظلمني ربي"، والاعتراض على قضاء الله، والتأفف من البلايا والمصائب والنوازل إلى حد السخط على القدر حادثٌ من بعض الناس.
وخلاصة الأمر أن الله - تبارك وتعالى - خلق الخلق، وقدّر أن تكون الحياة الدنيا كلها دار ابتلاء، ولن نجد فيها هانئا مرتاح البال من أول أمره إلى آخره ، بل إن أكثر الناس مالا وعيالا وسلطانا، سنجد عندهم -بلا ريب- عند البحث والتقصي ما يؤرق عليهم حياتهم، وما يجعلهم حزانى في أحيان، وقلقين في أحيان، بل وخائفين ووجلين في أحيان أخرى.
المرض والموت من ابتلاءات الله الكبرى في هذه الحياة، وهي مما يسري على جميع الناس، ولا تستثني مثل هذه الابتلاءات أحدًا، صغيرا كان أو كبيرا، فقيرا كان أو غنيا.
غير أننا نجد البعض، وكأن الابتلاءات والهموم قد خُلقت لهم من دون الناس، أو هم خُلقوا لها.
فلا يخرجون من بلاء إلا ويقعون في غيره، ولا يُزاح عنهم همّ إلا ويظللهم غيره.
وكثير من الناس يظن أن الحديث الذي رواه البخاري يشير إلى أن الشقاء في الحياة كتاب كتبه الله على بعض خلقه، والحديث هو الذي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب علمه ورزقه وأجله وشقي أو سعيد".
والحقيقة أن هذا الحديث لا يشير إلى الشقاء والسعادة في الحياة الدنيا، بمعنى كثرة البلاء وقلته.
ولكن الحديث يشير إلى الشقاء والسعادة باعتبار الآخرة، وما يختم به للعبد عند موته.
قال ابن حجر في الفتح: ومعنى قوله "شقي أو سعيد" أن الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب - مثلاً - أجل هذا الجنين كذا، ورزقه كذا، وعمله كذا، وهو شقي باعتبار ما يختم له، وسعيد باعتبار ما يختم له، كما دل عليه بقية الخبر.
وبقية الحديث كما في البخاري "وشقي أو سعيد، فوالله إن أحدكم أو الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
إذن، الشقاء الحقيقي والسعادة الحقيقية هي التي تكون في الآخرة، وهي التي يُختم للعبد بما يبشر بها.
وهذا لا ينفي أن هناك بعض الناس يظهر من حالهم أنهم أهل ابتلاء، وهناك من الناس من يظهر من حالهم أنهم أهل عافية.
لكننا نؤكد هنا أن أهل الابتلاء هؤلاء هم أهل ابتلاء لا أهل شقاء، وأن أهل العافية هم أهل عافية في المجمل العام الظاهر، أما في التفاصيل فلا أحد في هذه الدنيا إلا ويصيبه البلاء بدرجة من الدرجات وكيفية من الكيفيات.
فأما عن أهل الابتلاءات، فإما أن يقابلوا ابتلاءهم بالقنوط والاعتراض والكفر بعدل الله ورحمته، وهنا يكون بلاؤهم شقاء على شقاء، شقاء لهم في الدنيا بكيفيته التي يكون بها، وشقاء لهم في الآخرة بالإثم على الاعتراض وعدم الرضا.
وإما أن يكون هذا الابتلاء رحمة من الله بهم، وذلك عندما يقابلونه بالرضا والتسليم والحمد، فيغفر الله لهم به الذنوب، ويرفع لهم به الدرجات، بل ويلطف بهم فيه لرضاهم وصبرهم.
لا يظلم الله أحدا، إنما يبتلي العبد بالبلاء، على قدر صبره الذي يستطيعه، فإن قنط وسخط، فقد ترك ما أعطاه الله له من القدرة على الصبر والرضا، واتبع ما وسوس له به شيطانه من السخط والقنوط.
لا يظلم الله أحدا، إنما يبتلي العبد بالبلاء، على قدر صبره الذي يستطيعه، فإن قنط وسخط، فقد ترك ما أعطاه الله له من القدرة على الصبر والرضا، واتبع ما وسوس له به شيطانه من السخط والقنوط.
قرأت، أن أحد العلماء رأى وهو يسير رجلًا بسيطًا لا يفتأ لسانه عن هذا الذكر (أستغفر الله، الحمد لله).
فقال العالم: لقد فَقِه الرجل، وعلم أنه بين حالين، إما ذنب يحتاج لاستغفار، أو نعمة تحتاج لحمد.
قلت: وكم يحتاج لهذا الذكر خاصة أهل الابتلاء، فإما أن يكون ابتلاؤهم بسبب ذنوبهم، فيجب عليهم حينها الاستغفار اعترافا منهم بالذنب وتوبا منه، وفي الأثر: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
وإما أن يكون ابتلاؤهم لرفع درجاتهم، وهنا يجب الحمد منهم عليه. ويا للعجب من أهل الله! يبتليهم الله بالبلايا، فيحمدون الله عليها، لعلمهم بسببها وحكمتها، وغيرهم من أهل الشيطان يسخطون ويعترضون.
كما أن أهل الله يحمدون الله عند البلاء مبالغة في إظهار رضائهم بقضاء الله.
هم أهل الله الذين يرضون بقضائه وإن حمل البلاء، إلى حد حمد الله وشكره.
أما ذلك الذي قال عند موته "لقد ظلمني ربي"، فقد ظلم هو نفسه، وأي ظلم ظلمها!
إذ لم يرض بقضاء الله في الدنيا، فلم يلطف الله به فيه، ولم يُعقب له بالعافية والسلامة، بل رماه الله في حومة الابتلاءات تتخطفه لما رآه متسخطا، وظلم نفسه عند موته، وبالغ في ظلمها، إذ أثبت سخطه وكفره، حتى لا يترك لنفسه أملا في رحمة الله وعافيته، لتلحقه في الآخرة، إن كانت قد عزت عليه في الدنيا.