إن الله تعالى قد أرسل رسوله محمد ﷺ للناس كافة، وجعل شريعته هي الشريعة الخاتمة، لذلك فإن هذه الشريعة المباركة تمتلك من أسباب البقاء ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وسنذكر بإيجاز شديد عشر عوامل لبقاء الدين الإسلامي، سوى مشيئته سبحانه وتعالى وقدرته وقدره.
1- ربانية المصدر
إن المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية هو القرآن الكريم (كتاب الله المُعجز، الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ عن طريق أمين الوحي جبريل عليه السلام، بلسان عربي مبين، ليُخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الهداية، وهو الكتاب الذي يتعبد المسلمون بتلاوته وتدبره وحفظه والامتثال لأوامره والبعد عن نواهيه وزواجره، والقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي تحدى بها الله تعالى العرب أجمعين).
قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
والسنة النبوية المطهرة هي الوجه الثاني للوحي، فهي صنو القرآن في الأوامر والأحكام والتشريع، فالسنة تبيِّن مُبهم القرآن، وتفصِّل مُجمله، وتقيِّد مُطلقه.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "ألَا إنِّي أُوتيتُ الكِتابَ ومِثلَه معه، ألَا إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه معه، ..." (المسند بإسناد صحيح).
ولكون التشريع الإسلامي رباني المصدر فهو يتميز بميزتين وهما (العلم المُطلق - الحكمة التامة).
2- شمولية الرسالة
إن الشريعة الإسلامية تتناول مظاهر الحياة جميعاً، وما تركت الشريعة الإسلامية بوجهيها (الكتاب والسنة) مجالاً يُصلح أحوال العباد إلا ووضعت لهم أصولاً وقواعد وأسُس يسيرون عليها، ولا تركت الشريعة الإسلامية شاردة ولا واردة إلا بيَّنتها بياناً لا غموض فيه حتى إتيان الرجل أهله، ودخوله الخلاء.
3- التوازن بين المادية والروحية
إن الشريعة الإسلامية هي الوسط بين تشدد النصارى وتهاون اليهود، فلا هي "رواقية" تهتم بالروح وتهمل المادة، ولا هي "أبيقورية" تهتم بالمادة على حساب الروح، وهذا سر بقائها وديمومتها وصلاحها.
إن الشريعة الإسلامية التي توصي المسلمين بغض البصر وحفظ الفرج وصيانة الأعراض، هي نفسها التي توصي بمُلاعبة الرجل أهله.
4- التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة
إن الشريعة الإسلامية قد جاءت لتحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة فلا تطغى واحدة على الأخرى إجحافاً واستحواذاً.
جاء في حديث خطبة الوداع أن النبي ﷺ قال: "فإن دماءَكم، وأموالَكم، وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحُرْمَةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا..." (رواه مسلم).
فالفرد في الشريعة الإسلامية له حق الانتفاع بما يملك ما لم يضر بالآخرين، ولا يُفسد حياة الجماعة؛ لذلك حرَّمت الشريعة بيع المخدرات، كما حرمت الربا والزنا والاحتكار، وكل ما يعود بالضرر على العامة.
5- الجمع بين الأصالة والتجديد
قلنا أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولذلك كانت لها خاصية التطور بحيث تسع أحكامها كل جديد ويدخل تحت أصولها كل مُستحدث.
إن الشريعة الإسلامية فيها الثابت الذي لا ينبغي أن يتغير، كأمور العقيدة والعبادات ومكارم الأخلاق وكل ما يضمن الحفاظ على الضرورات الخمس، وهي (حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال).
وفي الشريعة الإسلامية ما يقبل التغير كالمصالح المُرسلة التي تتغير بتغير الزمان والمكان وبتغير الأجيال، والمصالح المُرسلة هي كل مصلحة سكت عنها الشرع ولم يشهد لها لا باعتبار ولا بإلغاء، مثل (مواصفات البناء، ومواصفات الطرق، وشق الترع، وبناء الجسور، والأعراف العامة ...الخ)، طالما أن كل هذه الأمور تتم في إطار أخلاقيات الإسلام وتراعي أصوله ومبادئه ولا تصطدم مع أي منها.
أما المستجدات التي تتعارض مع أخلاقيات الإسلام ولا تراعي أصوله ولا مبادئه فالإسلام منها براء، مثل (الاستنساخ، وتأجير الأرحام، وبيع الأعضاء، والمسائل المستحدثة في البيع والشراء والمعاملات... الخ).
ومن مرونة الشريعة الإسلامية أن الأحكام ثابتة ولكن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال.
6- الواقعية
إن الشريعة الإسلامية تتعامل مع واقع الناس بكل أحوالهم وبما فيهم من مزايا وعيوب وتقلبات، فالشريعة بها حكم لكل حال، وتستوعب كل صفات الناس، وتراعي كل ظروفهم بما يحفظ للمُحسن إحسانه وبما يُقيل للمتعثر عثرته.
قال تعالى: {...مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: من الآية 6].
إن الشريعة الإسلامية حين علمتنا الصلاة لم تغفل أحوال المرضى ولا حتى تقلبات الطقس، وحين أمرتنا بالصيام لم تنس أن تبين أحوال المرضى وكبار السن وأصحاب الأعذار، وحين أمرتنا بالزكاة لم تغفل حال غير القادرين ولا المتعففين، وحين فرضت الحج ربطته بالاستطاعة، وفي كل ذلك راعت الشريعة الإسلامية أنه لا عصمة لأحد بعد المصطفى ﷺ، وهكذا في كل ما فرضته الشريعة الإسلامية على المسلمين.
7- العدالة المطلقة
إن الناس أمام شريعة الله سواء، فكما قال النبي ﷺ: "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم" (رواه أحمد).
جاء في حديث المرأة المخزومية التي سرقت أن النبي ﷺ قال: " إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (صحيح البخاري).
8- العالمية
إن الأصل هو أن تكون الشريعة الإسلامية هي الحاكمة على جميع العالمين، وأن يحكم أهلها بين الناس. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
9- الرقابة الذاتية
إن المسلمين يعلمون أن الله تعالى مُطلع عليهم في سرهم وجهرهم، وأنه من الواجب على كل مسلم أن يتقي الله ظاهراً وباطناً، ولا يوجد هذا الحِس وهذا اليقين إلا عند المسلم.
ففي بلاد غير المسلمين إذا انقطعت الكهرباء أو شعر الفرد بأنه بعيداً عن مراقبة السلطات تحدث عمليات سلب ونهب وتحرش واغتصاب، على عكس المسلم الذي يشعر أن بداخله رقابة ذاتية ويُوقن أنه موقوف ومسئول بين يدي الله تعالى.
إن الرقابة الذاتية هذه هي التي أتت بـ "ماعز بن مالك" الذي ارتكب فاحشة الزنا ولم يره أحد، ليقول: "يا رسولَ اللَّهِ طَهِّرني" وهو يعلم مدى قبح ما ارتكب وأن تطهيره لن يكون إلا بإقامة حد الزنا عليه.
10- أن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتاب هذه الأمة
إن تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم يعني بالضرورة والتبعية حفظ الشريعة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالشريعة الإسلامية ما أنزلها الله تعالى إلا لتقود وتسود، وما يعتري الأمة من عصور ضعف فهو ليس ضعفاً للإسلام وشريعته ومنهجه ولكنه ضعف الأتباع بانشغالهم عن مصدر قوتهم وعزتهم. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها" (رواه أبو داود).
إن التجديد المقصود هنا ليس هو التجديد الذي يروِّج له الأفاكون -بالترك أو بالإضافة- بل هو إزالة ما نُسِب للإسلام من إضافة وترك والإسلام منه براء، حتى يعود الإسلام للمحجَّة البيضاء التي تركه النبي ﷺ عليها.
قال تعالى: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 153].
ختاماً أقول
هذا ديننا، استمسك به الصحابة رضوان الله عليهم، واستمسك به السلف الصالح، فعزوا وسادوا وقادوا ودانت لهم العرب والعجم، وبقدر تمسكنا بمبادئ ديننا وأصول شريعتنا بقدر ما ننال من العز السيادة والقيادة والريادة، فالإسلام ليس ديناً للكسالى ولا ديناً للمارقين.
إن الإسلام هو ذلك الدين الذي فهم حقيقته الفاروق عمر رضي الله عنه فقال: "نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله"، وفهم حقيقته الصحابي الجليل ربعي بن عامر التميمي رضي الله عنه فقال لرستم ملك الفرس: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ومن جور الأديان الى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والأخرة".