ناقشنا في مواضع سابقة من الحديث، بعض تأثيرات الظروف التي أدى إليها وباء "كوفيد-19" على حياتنا الفردية والجماعية بشكل عام، على مختلف المستويات.
وكان مما وقفنا عليه، مجال #التعليم وتأهيل #الأطفال والناشئة في ظل ظروف الوباء، والتي أدت إلى فرض الكثير من القيود على حركة الناس، ومن بين ذلك مثلاً، مسألة ذهاب الأطفال إلى المدارس.
وقلنا إنَّه في هذا الإطار، ساهمت هذه الأحوال في تعضيد بعض الآليات المُستَجَدَّة -مثل التعليم عن بُعد- وكذلك في استعادة بعض الآليات الكلاسيكية القديمة التي كانت قد بدأت في الاندثار، سواء على مستوى التعليم والتلقين، أو على مستوى الترفيه الذي يتضمن محتوىً ثقافيًّا وتنشيطيًّا لمهارات الأطفال والناشئة وقدراتهم، مثل ألعاب "الليجو" وألعاب التركيب الخشبية، وغير ذلك من صور الترفيه التعليمي التي لا تتطلب حركة أو نشاطًا خارج البيوت.
وفي هذا الإطار، يحضر إلى الذهن واحدةُ من أهم وسائل تنمية ثقافة الأطفال والناشئة في الماضي، قبل ظهور وسائط الحفظ الإلكترونية، مثل الحواسيب والتابلت والهواتف الذكية ذات الشاشة كبيرة الحجم، والمزودة بإمكانية الاتصال بالإنترنت، وهي الموسوعات المُصَوَّرة.
وتضُم هذه النوعية من وسائط المحتوى، مجموعة كبيرة من المجالات، فمنها ما يتعلق بالمعارف العامة، ومنها ما يتخصص في مجال بعينه، وأهمها المعارف ذات الطابع العلمي، وقد يتخصص بعضها أكثر في مجال علمي بعينه، مثل المعارف الجغرافية والتاريخية، أو الكائنات الحية، أو النباتات، وما إلى ذلك.
وتتعدد وسائط العرض بحسب قدرات وسياسات التحرير لدى دور النشر التي تتبنَّى مثل هذه النوعية من الإصدارات.
فمنها ما يقدِّم المعلومة المقروءة في سياقٍ مُصَوَّر ضيِّق لتوفير نفقات الطباعة، أو لاعتبارات تتعلق بمنهجية الموسوعة نفسه؛ فبعض الناشرين يعطي الثِّقَل الرئيس للنَّص المكتوب، وما يتضمَّنه من معلومات أساسية، وقد تكون الصُّور بالأبيض والأسود، أو قد تكون مُلَوَّنَة، ومنها ما يعطي هذا الثِّقَل للصورة التعبيرية، والتي تُعد أكثر تأثيرًا لدى بعض المراحل السِّنِّيَّة، وفي الغالب ما تكون الصُّور في هذه الحالة مُلَوَّنَة.
ومن بين النوعيات النادرة في هذا المجال؛ لأنها تتطلب مهارات تصميم وقدرات طباعية أكبر، هي تلك النوعية التي تربط المعلومات بمُجَسَّمات مُلَوَّنة، ولم يكن يطبعها على مستوى العالم العربي سوى دار المعارف ودار الشروق بين القاهرة وبيروت.
وفي الفترة الأخيرة، عادت هذه النوعية من المطبوعات المُجَسَّمة، ولكن في صورة أصغر حجمًا، وليست في إصدارات موسوعية، فدار نهضة مصر بالقاهرة - مثلاً - تقدِّم قطوفًا علمية لسِنِّ ما بين خمس وثماني سنوات، وليس في إطار موسوعي تجميعي؛ لأنَّها بالفعل صارت باهظة الثمن بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات طباعتها.
فالآن، تُقدِّم دور النشر هذه النوعية من المطبوعات، وبعضها يكون بالتعاون مع دور نشر عالمية، مثل "ديزني"، في صورة كُتَيِّبات صغيرة؛ كي تلائم غالبية مستويات الدخول، وإذا ما كان الأب أو الأم من أصحاب الدخول العالية فإنَّه يكون بمقدورهم في هذه الحالة تكوين موسوعة متكاملة من خلال شراء مجموعة كاملة منها.
كذلك قد تلجأ بعض دور النشر إلى إخراج موسوعات مُصَوَّرة في صورة سلاسل، مثلما تفعل "ناشيونال جيوغرافيك" فهي تصدر سلاسل موسوعية - إذا صَحَّ التعبير - مثل "ناشيونال جيوغرافيك تبحث في..." أو "مشاهدات علمية"، أو في صورة مجموعات مُستَقِلَّة عن بعضها البعض ولكنها في سياق موضوعي واحد، مثل الموسوعة العلمية المُبَسَّطة للناشئين التي أصدرتها دار الشروق القاهرية، وتضمَّنت مجموعة من الدراسات العلمية المُبَسَّطة للعالمَيْن الإسبانيَّيْن نوربرت لاندا وباترك باورل.
وبشكل عام، تراعي دور النشر العربية والأجنبية في هذه النوعية من الإصدارات، تقديمها في قالب طباعي جذَّاب، فتكون الأوراق غالبًا من النوع المصقول، أو "الأوفست"، وهو نوع من الورق بجانب أنَّه يعطي للصُّورة جاذبية أكبر لدى الطفل، خصوصًا لو كانت مطبوعة بألوان واضحة برَّاقة، فإنَّه أيضًا يمتاز بالقوة فيتحمَّل تعامل الأطفال غير الحريص بالشكل الكافي معه، بينما لو كانت نوعية الورق الطباعي عادية؛ لتمزَّقت على الفور.
ومن بين أهم الموسوعات الشاملة التي صدرت باللغة العربية، موسوعة "المعرفة" الشهيرة، التي كانت تصدرها مؤسسة "الأهرام" في السبعينيات، في صورة أعداد أسبوعية، كانت تصدر الخميس من كل أسبوع، وصدر منها 316 عددًا، وكان يرأس اللجنة العلمية لها، الدكتور محمد فؤاد إبراهيم، وموسوعة "العالم بين يديك"، أو "كل شيء عن..."، وصدرت عن في عشرة مجلدات عن دار "سيليكا" السويسرية، وترجمها إلى العربية كاتب الأطفال الأشهر في العالم العربي، يعقوب الشاروني.
وقد سَعَت بعض دور النشر العربية مثل "أطفالنا" و"سفير" في مصر، إلى إخراج إصدارات مماثلة حاولت المزج بين المعلومة العلمية وبين الطابع الذي يعكس قيمنا وعقيدتنا كمسلمين ومفاهيمنا للخلق الربَّاني وأهمية وضرورة التدبُّر فيه كما أمرنا القرآن الكريم.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذه النوعية من الموسوعات من الأهمية بمكان إعادة الاعتبار لها داخل الأسرة التي تسعى إلى تدعيم مهارات وثقافة أبنائها منذ الصِّغَر، لأكثر من سبب.
السبب الأول/ أنه من غير الممكن استبدال هذه النوعية من المنشورات والمطبوعات الورقية بمثيل إلكتروني؛ فمن المستحيل مطالعة مثل هذا المحتوى "الميجا" أو الضخم في كل شيء، سواء في الحجم أو في طبيعة المحتوى، على أي وسيط إلكتروني، بما في ذلك الوسائط ذات الشاشات الكبيرة، مثل الحواسيب و"اللاب توب".
فبجانب الإرهاق الذي تتسبب فيه ساعات المكوث الطويلة أمام مثل هذه الوسائط، للعين وضغط الدم وما إلى ذلك، فإنَّ الوسيط الوحيد القادر على الربط بين النَّص والصورة بوضوح في مثل هكذا محتوى، هو الوسيط الورقي.
السبب الثاني/ أنَّه من الصعب في ظل ضخامة مثل هذه الأعمال، أنْ ترفع على الإنترنت، مع كونها ذات طبيعة نوعية تتطلب مساحات واسعة لتخزينها في الفضاء الافتراضي، وسرعات إنترنت كبيرة غير متوفرة - في الواقع - في كثير من بلدان عالمنا العربي؛ لتحميلها، وكذلك وسائط ضخمة لتخزينها مع اشتمالها على صور كبيرة يجب تصويرها بشكل واضح للاستفادة منها، ولو رفعت بـ"Pixels" أقل سوف تفقد قيمتها ودورها.
كما أنَّ الكثير من الدراسات التي أُجرِيَت في الغرب والدول الأخرى المتقدمة مثل اليابان على المحتوى الإلكتروني، وجدَتْ أنَّه مهما بلغ تركيز القارئ مع الوسيط الرقمي المقروء أو المُصَوَّر، فإنَّ قابليته للنسيان أكبر بكثير مما لو طالع ذات المحتوى على وسيط مطبوع على الورق.
الكثير من الدراسات التي أُجرِيَت في الغرب والدول الأخرى المتقدمة مثل اليابان على المحتوى الإلكتروني، وجدَتْ أنَّه مهما بلغ تركيز القارئ مع الوسيط الرقمي المقروء أو المُصَوَّر، فإنَّ قابليته للنسيان أكبر بكثير مما لو طالع ذات المحتوى على وسيط مطبوع على الورق
ولذلك فإنَّه لا يزال للكتاب الورقي – بشكل عام – قيمته وضرورته مهما طال الزمن، ومهما تطورت وسائط المحتوى الرقمي الأخرى.
وفي حقيقة الأمر فإنَّ هناك لمثل هذه النوعية من الإصدارات أوجه أهمية عديدة، أُهمِلَتْ بالتدريج في العقود الثلاثة الأخيرة مع تطور الوسائط الرقمية وشيوع الإنترنت والفضائيات.
ومن بين أوجه الأهمية هذه، ربط الطفل – الذي هو في الأصل غير قادر بالشكل الكافي على التعامل بالفائدة المرجوة مع الوسائط الرقمية – بهذه النوعية من المحتوى شكلاً وموضوعًا؛ فمجرَّد أنْ يكون الطفل في عالم يتضمن هذه النوعية من المطبوعات؛ هذا في حَدِّ ذاته على أكبر قدر من الأهمية في توجيه الطفل ورسم شخصيته واهتماماته بعيدًا عن توافه الأمور.
وجه الأهمية الآخر، هو نوعية المحتوى الذي تقدِّمه؛ فإنَّ مثل هذه الموسوعات تأخذ الطفل في سِنٍّ مُبَكِّرة إلى أقصى أطراف الأرض، وإلى أعماق الكون ذاته، وهو ماكثٌ في مكانه، وربطه عقليته بالكثير من المعارف التي تتطوَّر به، مما يُوَسِّع من مداركه ومفاهيمه.
ولعل الاعتبارات التي فرضها علينا فيروس "كورونا المستجد"، تُفسِح المجال أمام إعادة الاهتمام بمثل هذا النوع من الإصدارات الثمينة القيِّمة.