في منتصف شهر سبتمبر من هذا العام 2020م نشرت الخارجية الأرمينية صورتين اعتبر المحللون أن الغرض من نشرهما هو استفزاز حكومة أذربيجان.
الصورة الأولى: تظهر فيها زوجة رئيس وزراء أرمينيا "أنّا آكوبيان" وهي تحمل سلاح كلاشنكوف، وتقوم بتدريب النساء على استخدام السلاح، في رسالة منها أن التعبئة للحرب ضد أذربيجان ستكون تعبئة عامة وشاملة لكل طوائف الشعب الأرميني.
والصورة الثانية: يظهر فيها أحد القساوسة الأرمن بزيِّه الرسمي وهو يحمل سلاح كلاشنكوف هو الآخر، في رسالة منه للحكومة الآذرية أن حرب الأرمن ضد أذربيجان ستكون حرباً مسيحية مُقدسة وصراع وجود قبل أن يكون صراع حدود.
بعد هذه العمليات الاستفزازية بأيام قليلة وتحديداً يوم الأحد الموافق 27 سبتمبر 2020م نشب الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، إثر إطلاق القوات الأرمينية النار على مواقع سكنية مدنية بأذربيجان.
والطريف في الأمر أن وكالات الأنباء العالمية نشرت صورة من إحدى المستشفيات بأرمينيا تظهر فيها زوجة رئيس وزراء أرمينيا التي كانت تؤجج للصراع، وهي تشرف بنفسها على علاج جرحى ومُصابي الصراع.
إن صورة زوجة رئيس وزراء أرمينيا وهي تتابع حالات المصابين لو وضعت بجوار صورتها السابقة وهي تدرب نساء بلادها على استخدام السلاح لكانتا تفسيراً دقيقاً للمقولة الشهيرة "من سَلَّ سيف البغي قُتِل به"، وفي نفس الوقت تبين الصورة مدى إصرارها على الالتحام بالشعب والعمل على خدمته في كل المواقع وتحت كل الظروف.
أولاً: نبذة عن تاريخ الصراع بين أذربيجان وأرمينيا
جرت أول اشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان في مدينة "باكو" في شهر فبراير من عام 1905م لأسباب عرقية ودينية وسياسية، وفي أغسطس من نفس العام حدث أول صراع فعلي بين سكان أرمينيا وأذربيجان في منطقة "شوشا"، والمحلل للمشهد يُدرك أن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان في ذلك الوقت كان من أهدافه إنهاك قوة السلطان عبد الحميد باعتباره حليفاً وداعماً لأذربيجان، وبالفعل غادرت الإمبراطورية العثمانية المنطقة بعد "هدنة مودروس" التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي بموجبها تم احتلال اسطنبول وتقسيم الامبراطورية العثمانية لصالح الحلفاء.
وفي عام 1918م تحولت الصراعات إلى حرب فعلية بين أرمينيا وأذربيجان، وكانت هذه الحرب عبارة عن سلسلة من الهجمات الدموية والوحشية بين الطرفين أدت إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين لأن الحرب بين الطرفين كانت تعتمد على ما يُعرف بحرب العصابات.
أما عن الأسباب الكامنة وراء الصراع فإن الجمهورية الأرمينية ترغب في ضم بعض الأجزاء الشرقية والجنوبية من أذربيجان إلى أراضيها، وهذا ما ترفضه أذربيجان تماماً وتُؤكد على وحدة أراضيها وسيادتها المشروعة على كل تلك المناطق.
وفي عام 1924م قام الاتحاد السوفيتي بإنشاء منطقة مرتفعات "قرة باغ" المستقلة داخل حدود أذربيجان.
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينيات، بدأ الخلاف بين أرمينيا وأذربيجان حول مستقبل المنطقة، وبدأت أول اشتباكات بين الطرفين في عام 1988م، واستمرت بشكل متقطع حتى عام 1991م.
ومنذ عام 1991م وحتى الآن تحتل أرمينيا حوالي 20% من أراضي أذربيجان، وهذا ما تؤكده أربعة قرارات من مجلس الأمن، وقراران من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجميعها تطالب بانسحاب القوات الأرمينية من "قره باغ" وسبع مناطق أخرى محتلة في أذربيجان.
وخلال الصراعات المتواصلة بين أذربيجان وأرمينيا أصبح أكثر من مليون أذربيجاني مُشردين داخلياً، في حين قُتل 20 ألف شخص في عمليات عسكرية وحشية، وأصيب 50 ألفاً آخرون بجروح، هذا بخلاف آلاف المفقودين والأسرى، كل ذلك حسب ما ذكرته إحصائيات رسمية في أذربيجان، وكل ذلك بالرغم من القرارات الدولية والنداءات والمطالب بوقف إطلاق النار.
ثانياً: الصراع الأرميني الأذري بين ميزان القوى ولغة المصالح.
بالرغم من كل ما سبق فإن الأسباب الكامنة وراء الصراع بين أرمينيا وأذربيجان لا تقتصر على الصراع السياسي والأيديولوجي فحسب، ولكن هناك عوامل وأطراف أخرى تتدخل في الصراع بين الطرفين من أجل تحقيق مصالح وأهداف استراتيجية لكل طرف، وهذا ما يجعل الصراع الأرميني الأذري مُعقد ومتشابك الأطراف، وأصبحت تحكمه المصالح في المقام الأول.
- فإيران الشيعية رغم وجود مصالح اقتصادية مشتركة لها مع أذربيجان، ورغم وجود أقلية أذرية في إيران تصل لحوالي 20% من سكان إيران، إلا أنها تمد أرمينيا المسيحية بالأسلحة لقتال أذربيجان المسلمة ذات الأغلبية الشيعية باعتبار أن المصالح الاقتصادية والعسكرية لإيران مع أرمينيا أهم من مصالحها مع أذربيجان، ورغبة من إيران في تقويض شوكة الأقلية الآذرية الإيرانية حتى لا تطالب بالاستقلال بمساعدة أذربيجان الناهضة اقتصادياً والمتحالفة مع الكيان الصهيوني عدو إيران.
- وبالنسبة لتركيا فإنها من أكبر الداعمين لأذربيجان وأعلنت السلطات التركية ذلك رسمياً وعملياً أكثر من مرة، والسبب الرئيس في ذلك هو عدم رغبة تركيا في اعتمادها على استيراد الطاقة من إيران وروسيا والتوجه نحو الاستيراد من أذربيجان، علاوة على رغبة تركيا الحثيثة في التوسع في نشر المذهب السني في أذربيجان على حساب المذهب الشيعي.
- وبالرغم من كون أذربيجان دولة إسلامية إلا أنها تربطها بالكيان الصهيوني علاقات اقتصادية قوية، تتمثل في تصدير الطاقة للكيان الصهيوني، فدولة الاحتلال تستورد حوالي 40% من احتياجاتها من الطاقة من أذربيجان، كل ذلك حتى لا تعتمد دولة الاحتلال اعتماداً كلياً في استيراد الطاقة على الدول العربية فيتكرر معها ما حدث من العرب أثناء حرب 1973م. وفي الجانب الآخر، نجد أن أذربيجان تستورد المعدات العسكرية "الإسرائيلية" حيث وصل حجم استيراد أذربيجان للأسلحة من الكيان الصهيوني إلى حوالي 5 مليارات دولار في السنوات القليلة الماضية.
ثالثاً: موقف المجتمع الدولي من الصراع بين أرمينيا وأذربيجان
نتيجة لاندلاع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان وتفوق أذربيجان في المواجهة قام رؤساء الدول الثلاث الأعضاء في مجموعة "مينسك" (روسيا، وفرنسا، والولايات المتحدة)، قاموا يوم الخميس الأول من أكتوبر بإصدار بيان مشترك يُعبِّرون فيه عن إدانتهم لتصعيد العنف الحاصل في خط التماس بمنطقة "قره باغ".
جاء في البيان: "ندعو إلى الوقف الفوري للأعمال القتالية بين قوات الأطراف المنخرطة. كما نحث قيادة أرمينيا وأذربيجان على الالتزام فوراً باستئناف التفاوض، بحسن نية ودون طرح شروط مُسبقة، بشأن تسوية النزاع، بدعم من الرؤساء المشاركين في مجموعة "مينسك" الخاصة بـ "قره باغ" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا".
إن أعضاء مجموعة "مينسك" يدركون أن المجتمع الدولي لن يستطيع التدخل في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان لأن المجتمع الدولي مازال يعترف بأن "قره باغ" أو "كاراباخ" جزء من أذربيجان، وبالتالي فإن الصراع بين الطرفين صراعاً مشروعاً من الناحية الدولية كأي صراع داخلي.
وبالنسبة لروسيا تحديداً فإنها في موقف لا تحسد عليه وذلك لعدة أسباب:-
السبب الأول: إذا تدخلت روسيا لصالح أرمينيا فإنها ستخسر مصالحها في أذربيجان.
السبب الثاني: لو تدخلت روسيا لصالح أرمينيا فسيكون من حق أذربيجان أن ترفض تواجد روسيا في مجموعة "مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والمتمثلة في الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
السبب الثالث: لو تدخلت روسيا لصالح أرمينيا فإن تدخلها سيتسبب في أزمة في معاهدة الأمن الجماعي المتفق عليها عام 1992م.
إن ما يمكن لروسيا أن تفعله هو الضغط على أرمينيا لقبول المفاوضات التي ستكون بالفعل في صالح أذربيجان، باعتبار أن كفة أذربيجان الآن هي الأرجح وأنها تتفاوض من منطق القوة.
كما يمكن للمجتمع الدولي أن يقوم بالتصعيد ضد تركيا، بصفتها حليفاً لأذربيجان، على ألا يكون التصعيد في هذا الملف تحديداً لشرعية التواجد التركي فيه.
رابعاً: قراءة في خريطة المنطقة وأطراف الصراع
من يركز في خريطة أذربيجان وحدودها الجغرافية ويتخيل أن أذربيجان غير موجودة على الخريطة -لا قدر الله- سيدرك ما يلي:-
النقطة الأولى: ستكون تركيا في مواجهة مباشرة مع تكتل روسي أرميني إيراني، فأذربيجان بالنسبة لتركيا صمام أمان يجب على تركيا دعمها والحرص على تقويتها.
النقطة الثانية: الموقع الجغرافي الاستراتيجي لأذربيجان حيث إنها تربط بين آسيا وأوروبا، كما أنها تطل على مجرى مائي هام وهو بحر قزوين.
النقطة الثالثة: فتح ملف الصراع بين أذربيجان وأرمينيا الآن من أغراضه إنهاك تركيا كحليف لأذربيجان وشغلها عن ملفات أخرى في الشرق الأوسط وقبرص واليونان.
النقطة الرابعة: فتح ملف الصراع بين أذربيجان وأرمينيا الآن من أغراضه أيضاً اختبار القوة العسكرية الفعلية لتركيا باعتبارها حليفاً عسكرياً لأذربيجان.
النقطة الخامسة: سقوط أذربيجان -لا قدر الله- سيشجع على القضاء على الأقليات المسلمة في أماكن أخرى من العالم وخاصة في أسيا.
النقطة السادسة: سقوط أذربيجان -لا قدر الله- سيُعيد للدب الروسي جزءا من كرامته التي أهدرت في ملفات عديدة منها الملف السوري بعدما تدخلت تركيا هناك وفرضت منطق القوة.
أخيراً أقول:
إن من ينظر لخريطة العالم يجد أنه ما من قارة إلا وفيها نقطة صراع ملتهبة في منطقة أشد التهاباً، ومن يدقق النظر أكثر سيدرك أن نقاط الصراع هذه متداخلة الأطراف ومتشابكة الأهداف بل ومعقدة الأسباب للحد الذي يستحيل حلها على مائدة المفاوضات لأنها صراعات أيدولوجية في المقام الأول مما يجعلها صراعات وجود قبل أن تكون صراعات حدود.