حينما رجحت الحكومة الأردنية مؤخراً أنها بحاجة إلى يوم في الأسبوع يُفرض فيه حظر تجول شامل إلى نهاية العام الحالي؛ وقع اختيارها على يوم الجمعة كونه أقل كلفة اقتصادية كما تقول، وبالتالي قررت إيقاف صلاة الجمعة لحوالي 11 أسبوعاً.
عقب هذا القرار؛ تعالت أصوات المحتجين على وقف صلاة الجمعة، وانطلقت حملة شعبية واسعة قل نظيرها في المملكة، ابتدأت بمواقع التواصل الاجتماعي، ثم ببعض الاعتصامات على أرض الواقع، والتي كان من المتوقع أن تمتد في طول البلاد وعرضها؛ لولا أن الحكومة تنبهت إلى خطورة قرارها، وما يمكن أن يُحدث من وحدة فعل شعبي معارض مؤثر على المدى القريب والبعيد.
المهم في هذه التجربة؛ هي أن اجتماع قطاعات شعبية عريضة ومتعددة التوجهات على مطلب واحد ومحدد؛ هو السماح بارتياد المساجد لإقامة صلاة الجمعة، بغض النظر عن الشروط والإجراءات الصحية التي ترغب بفرضها الحكومة؛ أجبر هذه الأخيرة على اتخاذ قرار يتناغم مع المطالب الشعبية المحقة.
ومن راقب المشهد؛ لاحظ أن نجاح المعارضين في توحيد فعلهم، وإقناع الرأي العام بعدالة قضيتهم؛ دفع تيارات غير إسلامية، ومواطنين مسيحيين؛ إلى مطالبة الحكومة بالتراجع عن قرارها، ما تسبب لها بالإحراج، ووسّع دائرة المواجهة لتصبح مع عامة الشعب، لا مع تيار أو حزب أو جماعة.
واليوم؛ توحِّد إساءة الرئيس الفرنسي ماكرون للنبي صلى الله عليه وسلم كلمة الأردنيين، بل عامة الشعوب العربية والإسلامية، الذين لم يجدوا بداً في سياق الرد على هذه الإساءة من اللجوء إلى سلاح مقاطعة البضائع الفرنسية، ومع أنه سلاح يجمع العالم على سلميته و"حضاريته"؛ إلا أن ماكرون يأبى إلا أن يكابر ويصف المقاطعين بـ"المتطرفين"، مطالباً شعوب الشرق الأوسط بالتوقف عن المقاطعة التي أوجعته وأذهلته.
ويتكرر الدرس الذي تأبى الأمة -للأسف- إلا أن تهمله وتتنكر له، لتعود بعد المحنة إلى سابق عهدها من التشتت والتنازع، وهو درس الوحدة والاعتصام والتآخي والتعاون والتطاوع، والتخلي عن جعل الخلاف في الرأي مسماراً تُدق به كل المسارات والأفكار التي يمكن أن تجتمع عليها الكلمة، أو يكون ثمة التقاءٌ عليها حتى مع وجود الخلاف!
ليس هو بالدرس الجديد، فقد ثبت على سبيل اليقين لكل المُعرضين عن النصوص الشرعية التي قررت هذه الحقيقة منذ زمن بعيد؛ أن اجتماع الأمة على مطلب واحد، واتخاذها وسيلة ذات طابع واحد؛ يصنع المستحيل، ويمرغ أنف الطغاة في التراب.. وأن تنازع الأمة، وتشتت مطالبها، وتعدد سبُلها؛ يفضي إلى الفشل، وأن هذا التنازع كلما زادت حدته؛ كلما ضعفت الأمة ووهنت، حتى إذا ما بلغ التنازع ذروته؛ هانت الأمة على الله وعلى خلقه، وأصبحت كالجثة الهامدة، تصفعها أيدي الأعداء، وتركلها أرجلهم، وتطعنها رماحهم ولا حراك لها.. ألم يقل ربنا سبحانه: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"؟!
إن اجتماع الأمة على مطلب واحد، واتخاذها وسيلة ذات طابع واحد؛ يصنع المستحيل، ويمرغ أنف الطغاة في التراب
إنه الدرس ذاته الذي شهدناه في زمن قريب، وبلد قريب.. سوريا التي تفرقت فصائلها الثائرة على الظلم والاستبداد إلى رقم يعجز عن حصره العادّون، وتعددت ولاءاتها وانتماءاتها، وانشغلت بالنزاع فيما بينها عن الهدف الذي قامت من أجله؛ فكانت النتيجة التي نراها جلية لا تخفى على أحد..
وقد يقول قائل: ليس بالضرورة أن تنتصر الثورة على الطغاة النصر المادي المتعارف عليه، فهناك أشكال أخرى من النصر قد لا ينتبه الناس إليها، كثبات المؤمن على عقيدته، وتمسكه بها وهو يتلقى بصدره رصاصات العتاة، ومواجهته الموت بابتسامة الواثق بأن الله سينتقم يوماً من الظلمة المتجبرين، ولو بعد حين.. تماماً كما حصل مع أصحاب الأخدود الذين أُلقوا في الأخاديد المشتعلة بالنار، ولم يردهم ذلك عن دينهم وعقيدتهم وإيمانهم بربهم سبحانه..
ولكن هذه المحاماة تنادي على نفسها بالسماجة والفشل، فهل من الدين الذي يجب أن نثبت عليه؛ أن نتنازع فيما بيننا، ونقدم أنفسنا - بتفرقنا - لقمة سائغة لعدونا؟! ولست أقلل من تضحيات من أقبلوا على الموت رداً لعادية الطغاة وتجبرهم، ولكن ذلك لا يمنعني من التنبيه على هذا الدرس العظيم الذي أغفله المسلمون، وكلما سمعوا أحداً يلقيه على مسامعهم "جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً"!!
ومما يجلب الأمل والألم معاً؛ أن يتعامل كثير من العامة مع هذه الحقيقية بإيجابية ووعي، ويترفعوا عن خلافاتهم ليرتقوا سلّم الالتقاء على المطالب المشتركة، بلا أحقاد بينهم، ولا مآرب ضيقة، ولا مسالك خائنة، غايتهم في ذلك أن يرضى الله عنهم، وأن يكونوا فاعلين في نصرة قضية عادلة.. وفي المقابل؛ تغيب هذه الحقيقة عن أكثر الخاصة من العلماء والدعاة والجماعات الإسلامية، بل يغيّبونها عمداً، يؤزهم على ذلك الدوران حول الذات، والتعصب للرأي أو للجماعة، والتشبث بمصالح فئوية ضيقة على حساب مصلحة الأمة الواحدة!
إنهم يصعّبون المهمة على المخلصين، ويطيلون الطريق لأغراض تافهة، ويعيدون المصلحين الجادّين إلى المربع الأول؛ المتمثل في إعادة صياغة عقل المسلم، وصقل القلب المسلم، وتربية وإنشاء جيل جديد، يفهم دينه ويعي خصائصه ومقاصده، ويعظّم وحدة المسلمين، ويدرك أهمية العمل المشترك، وتوحيد الفعل على مطالب جمعية، ويتنازل عن رأيه لمصلحة الأمة، ويفهم الدرس من المرة الأولى!