لقد أشارت الأبحاث التي أجريت على فرق العمل في 500 شركة رائدة أن أحد أسباب ريادتها هو: سعادة أعضاء الفريق، وأن سبب هذه السعادة يعود إلى عاملين تقومان بهما المستويات الإدارية الثلاث (العليا، المتوسطة و الدنيا):
الاحترام و التقدير: ودليل وجودهما الإنصات الفعال و الإدارة بالعدل.
الثقة: ودليل وجودها التمكين الفعال للموظفين.
في مارس 2019، تم إلزام طائرات بوينغ 737 ماكس بالبقاء على الأرض من قبل سلطات وشركات الطيران في العالم وذلك بعد حادثي تحطم لهذه الطائرات واللذان أوديا بحياة 346.
وبسبب ذلك خسرت شركة بوينج إلى تاريخه 22 بليون دولار و هذه أكبر خسارة منذ تاريخ تأسيسيها قبل 107 سنوات، وعلى إثر ذلك شكلت لجنة تحقيق خلصت إلى أن سبب الكارثة:
أنّ العمال في المصنع يعانون من غياب الأمان النفسي وهو أن بمقدور الشخص التعبير عن رأيه أو عرض أفكاره أو الإشارة إلى المشكلات أو الإبلاغ عن أخبار سيئة دون خوف من العقاب.
كما خلصت اللجنة إلى أن مستويات الإدارة الثلاث في المصنع قد حرصت على العمل ضد الموظفين الذين يعبرون عن أفكارهم و المدراء الذين يسمعون لهم.
وكانت نتيجة ذلك انتشاراً في تأثير ظاهرة التعمية حيث يقوم المرؤوسون بتلطيف الأخبار السيئة لتبدو أفضل، أو يتجنبوا تمريرها إلى مديريهم نهائياً. لذلك لم تصل إلى الرؤساء إلا الاخبار الجيدة!
إن القيادة هي إنصات، والإنصات هو سر من أسرار جذب القلوب و أسرها وبالرغم من ذلك يفشل كثير من القادة في الإنصات لفرق العمل لديهم و يعود إلى مرض عضال هو متلازمة القائد ذو البعد الواحد ولعل ظاهرة تضخم الذات وانتفاخ الانا إضافة إلى الشعور بالتفوق الكاذب عندنا هي التربة الخصبة لتلك المتلازمة.
أما أبرز تجليات القيادة ذات البعد الواحد في سلوك المؤسسات عندنا فتظهر في:
• انحسار وضيق مساحة قبول الرأي الآخر المختلف وفي كثير من الأحيان محاربته و إقصائه أو عدم احترامه ناهيك عن اعتباره ذي فائدة.
• سيطرة إدارة أو قسم محدد على مقاليد المؤسسة بحيث يصبح المسيطر هو الوصي الشرعي الذي يؤمن أنه وحده يملك الحقيقة المطلقة الصائبة الناجزة، فرأيه صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب.
• رفض القيادة المؤسسية الاستعانة بأصحاب الخبرات و الكفاءات من خارج المؤسسة و زهدها في الاستفادة من الكفاءات وأصحاب الخبرات التي تذخر فيهم والاكتفاء برأي ثلة قليلة محظية وكأن هذه الثلة قد جمعت العلوم كلها من أطرافها.
• استعصاء العديد من المشاكل عن الحل لسنوات طويلة.
هذا للأسف حال كثير من مؤسساتنا، حيث يتصدر المشهد قيادة مؤسسية ذات بعد واحد لا ترى الواقع إلا بعين واحدة، ومن زاوية واحدة وعبر جهة واحدة فقط.
من أهم الاثار الهدامة و الفادحة لسيطرة القيادة المؤسسية ذات البعد الواحد:
• عجز هذه القيادة المؤسسية عن تراكم التجارب، فهي لا تستطيع أن تبني على الخبرات السابقة في المؤسسة بمعنى أنها تنسف في كل مرة ما سبق وأحرزته وبنته الإدارات السابقة من تقدم، وبذلك تسير خطوتين إلى الخلف مع كل خطوة إلى الامام.
• شعور الأعضاء أن المؤسسة تدار لصالح نخبة معينة وليس لحساب المؤسسة فيصبح الأعضاء غير راغبين بالتضحية من أجل المؤسسة و أهدافها و ينصرفون لتحقيق مصالحهم الخاصة، مما يؤدي إلى إثراء بعض أبناء المؤسسات بينما تعاني المؤسسات نفسها من شح و فقر، ويحدث ذلك بالأخص في مؤسسات النفع العام، لقد قيل: لا يمكن أن تصبح غنيا عن طريق العمل العام إلا اذا كنت فاسداً!
أعتقد انه بات علينا جميعا أن نغير ثقافتنا القائمة على الرؤية ذات البعد الواحد التي لا ترى الواقع إلا بعين واحدة، من زاوية واحدة عبر جهة واحدة فقط.
ولكي يتم ذلك على القيادة المؤسسية المسارعة إلى القيام ببعض الخطوات المهمة على إرساء قواعد الإنصات:
1. في الاجتماعات القادمة وكقاعدة عامة على القائد أن ينصت بعقل متفتح و قلب سليم للمشاركين بداية لكي يفهمهم ثم يتحدث ثانيا لإفهام المشاركين ما يريده.
2. إيجاد آليات مؤسسية واضحة لإحصاء و الاستفادة من أصحاب الكفاءات و الخبرات في هيئات استشارية و مؤسسات دعم القرار، فلا تقتصر المشاركة في إدارة المؤسسة على أصحاب المناصب و المواقع الرسمية فقط؛ لأنهم دائما قلة مهما كان عددهم، فلو احتكرت المعرفة من أصحاب المناصب الرسمية فقط و الثلة المحظية لما تعاقدت المؤسسات الرائدة مع عشرات من مراكز الأبحاث و شركات الاستشارات الخارجية.
3. إيجاد وسيلة واضحة و شفافة لإيصال الاقتراحات و الشكاوي من قبل أعضاء الفريق كافة للمستويات القيادية كافة على أن تشمل هذه الوسيلة قدرة الأفراد على متابعة اقتراحاتهم و شكواهم، فمؤسساتنا تعاني من تخمة في الأفكار و الاقتراحات المهملة و الشكاوي المنسية.
4. تعميم و دعم و حماية ثقافة الأمان النفسي بشدة والتأكد بشكل جدي على إيجاد مساحة كبيرة للتعبير عن الرأي الآخر المختلف وحمايته و الدفاع عنه و معاقبة كل من يحاول إسكاته أو الانتقام منه.
لقد مأسست الشركات و المؤسسات الرائدة عملية الإنصات الفعال بطرق متعددة فمثلاً، تمتلك شركة "تويوتا" "حبل أندون" Andon cord الشهير، حيث بإمكان أي موظف بغض النظر عن رتبته يواجه مشكلة حقيقية أو محتملة في الأمان أو الجودة أن يشد الحبل، ليطلق على الفور عملية فحص واختبار و تأكد.
ومع أن 8% من عمليات شد الحبل فقط كانت ذات طابع خطر حقيقي و 92% كانت ذات طابع إنذار محتمل إلا أن ذلك لم يمنع شركة تيوتا من الاستمرار في سياسة حبل أندون، لان الوفر الذي يتحقق من منع كارثة محتملة هو أكبر بعشرات المرات من تكلفة إيقاف العمل في خط الإنتاج.
وضع قادة شركة "بيكسار أنيميشن" آلية يطلقون عليها اسم "هيئة الخبراء" تهتم بتلقي الاقتراحات والشكاوي و متابعها بشكل يومي لإضفاء صبغة مؤسسية على الآراء التقويمية.
وتوجد لهيئة الخبراء شروط واضحة:
1. يجب أن تكون التعليقات بنَّاءة.
2. يجب أن تستهدف التعليقات المشروع وليس الشخص.
3. يجب على الجميع أن يكونوا مستعدين لسماع الحقيقة.
4. يجب أن لا يأخذ أحد أي شيء على محمل شخصي.
إذا أرادت القيادة المؤسسية أن تشع أفكارها و تنير كضوء الشمس الأبيض يجب أن تكون أفكارها نتيجة امتزاج أطياف الرأي كافة، فاللون الابيض هو مزيج من الألوان الرئيسية الأحمر، الأخضر، الأزرق. فليس عبثا أن الله جعل الطريقة الوحيدة للحصول على لون أبيض هي من خلال مزج الألوان الرئيسية الثلاث.
أنصتوا أيها القادة، ربما تصيب إمرأة ويخطئ عمر مرة أخرى!