مع واسع انتشاره، وخطره الظاهر على الحياة الإنسانية، وعدم وجود أي لقاحٍ أو علاج مُؤكَّد له حتى الآن؛ كان لوباء "كوفيد- 19" عظيم الأثر على مختلف صور النشاطات البشرية، ووصلت آثاره إلى كل أرجاء المجتمعات الإنسانية، بما في ذلك حتى أركان بيوتنا ودواخلها.
وبعيدًا عن السياقات السياسية والاقتصادية ذات الصياغات العامة التي تأتينا في التقارير الإعلامية والرسمية الحكومية، وفي الدراسات الأكاديمية، فإنه ومن بين المجالات المهمة المتخصصة المتعلقة التي تنزل إلى مستوى الاهتمام بالحالة الإنسانية الواحدة، هي الأمور المتعلقة بكيفية تعامُل الإنسان بالمعنى الشخصي أو الذاتي مع الظروف التي قاد إليها انتشار فيروس كورونا المستجد.
ويشمل ذلك طائفةً واسعةً من الأمور، مثل الهوايات، وكيفية قضاء الإنسان لأوقات فراغه، والتعامل النفسي والسلوكي الصحيح مع ظروف العزلة، وتدبير شؤونه المالية والحياتية بشكل عام.
وتزداد أهمية وجود تصور علمي واضح وسليم لتنظيم هذه الأمور في حالة التعامل مع الأطفال؛ لأنهم الفئة الأكثر حساسية وتأثُّرًا على المستوى النفسي والبدني لظروف من هذا النوع.
وفي هذا الإطار، وجدنا خلال الأشهر الطويلة الماضية التي مرَّت ثقيلة على المجتمعات الإنسانية، منظومة جديدة من الأفكار والترتيبات للتعامل مع ظروف الوباء بالنسبة لهذه الفئة، سواء في دور التعليم، حضانات ومدارس، أو داخل المنزل في الإطار الأسري.
ومن بين أهم الترتيبات فيما يتعلق بالعملية التعليمية، التعليم عن بُعد -الذي اعتُمِد بديلاً رسميًّا عن الذهاب إلى المدرسة في كثير من دول العالم- أما فيما يتعلق بنقطة المكوث في المنزل؛ فقد تزايد الاهتمام بأنشطة تنمية المهارات.
يغلق ذلك دائرة نقاش حول شأنٍ مهمٌّ للغاية شغل علماء النفس والتربويين والمهتمين بالشأن المجتمعي، وشرائح واسعة من أولياء الأمور في مجتمعات العالم المختلفة، سيما المجتمعات المُتقدِّمة التي تتمتَّع بمنظومة قوية ومتطورة من أنساق التربية والتعليم والفهم المجتمعي والتأهيل عند فئة الآباء والأمهات على وجه الخصوص.
هذا الشأن يتعلق بالتحولات الكبيرة التي أدَّت إليها التقنية الرقمية في عصر ثورة المعلومات والاتصالات على النشء، سواء فيما يتعلق بمداركه وقدراته الذهنية، أو ما يتصل باهتماماته، وأثر ذلك كله على أولوياته وأفكاره وسلوكه.
وهنا مثَّلت قضية انخراط الأطفال والنشء الجديد في التعامل مع وسائل التقنية الحديثة، مثل الحواسيب الآلية والهواتف الذكية وأجهزة "التابلت"، وإعطائهم مساحات واسعة من اهتماماتهم للألعاب الإلكترونية، وقضاء وقتٍ أكبر على شبكة الإنترنت؛ مثَّلت أولوية مهمة في هذا المجال.
مثَّلت قضية انخراط الأطفال والنشء الجديد في التعامل مع وسائل التقنية الحديثة -مثل الحواسيب الآلية والهواتف الذكية وأجهزة "التابلت"- وإعطائهم مساحات واسعة من اهتماماتهم للألعاب الإلكترونية، وقضاء وقتٍ أكبر على شبكة الإنترنت، أولوية مهمة في هذا المجال
ودقق التربويون وعلماء النفس والمهتمِّون بشكل عام، على نقطتَيْن رئيستيْن في هذا الصدد، الأولى/ هي مدى تأثير ذلك على نفسيات وسلوكيات الأطفال كما تقدَّم، ونوعية المواد التي يطالعونها على الإنترنت، وهل تلك التأثيرات جميعها تسير في الاتجاه الإيجابي أم السلبي.
فمثلاً؛ هل قادت الألعاب الإلكترونية إلى تحسين قدرات الأطفال الذهنية، وتنمية مواهبهم وقدراتهم، أم إلى زيادة نزوعهم إلى العنف والعزلة عن محيط الأسرة والأقران، وهل المواد التي يطالعونها على الإنترنت، مفيدة لهم معرفيًّا، وتحسِّن من ثقافتهم، مما يبدد بعض الحزن على تراجع قيمة المحتوى المطبوع لديهم، أم أنها أشياء ترفيهية بلا قيمة أو تنحدر بذائقتهم وتمس الأخلاق.
وقبل الكورونا، بدأت الكثير من المجتمعات الغربية في التوجُّه إلى البحث عن أدوات جديدة لسحب الأطفال والناشئة من الفضاء الرقمي مجددًا إلى آفاق قد تبدو للبعض أكثر تقليدية من أدوات التأهيل الفكري والمفاهيمي وتنمية المهارات والقدرات.
وهذا ليس بالأمر المُستَغرَب؛ فالبعض يرى أنَّه من الغريب حقًّا أنْ تعمَد هذه المجتمعات -التي هي ذاتها التي ابتكرَت وقدَّمت للعالم هذه المخترعات، ولكنَّه من علائم تقدُّمِها- دائمًا إلى تقييم آثار كل شيء، ورصد أية تحولات، ودعم الإيجابي منها، ومحاصرة السلبي.
وبالتالي؛ فقد عَمِدوا -بعد ظهور الكثير من الظواهر السلبية، مثل تزايُد حالات انتحار الأطفال والمراهقين، أو ارتكابهم لجرائم قتل تأثُّرًا بما يرونه ويعايشونه في المجال الافتراضي- إلى الرصد والتحليل للآثار، وتوجيه السلطات التربوية سواء بالمعنى الرسمي، أو بالمعنى الذي يخص الأسرة، أي أولياء الأمور إلى ما ينبغي حيال ذلك الحال.
ساهمت ظروف الوباء في تعضيد هذا الاتجاه، وبدأنا نرى الآن في كثير من المجتمعات، عودةً إلى عصر ما قبل الهواتف الذكية و"التابلت" بالنسبة للأطفال، وكانت القيود على الذهاب إلى المدارس والحضانات والأندية التعليمية، فرصة مهمة لذلك؛ فقد باتت الألعاب التعليمية التقليدية، مثل ألعاب التكوين الخشبية والكرتونية، وألعاب التركيب البلاستيكية المعروفة باسم "الليجو"، وألعاب "الميكانو" التركيب المختلفة الأشكال والمصنوعة من مواد متنوعة، مثل المعادن أو البلاستيك، من أبرز المشاهد القديمة التي عادت إلى الظهور في الأشهر الأخيرة.
ونرى أنَّ شركة صناعة مكعَّبات "الليجو" الشهيرة في الولايات المتحدة، قد أصدرت تقارير عديدة مفيدة في هذا الاتجاه؛ فهي –أولاً– ذكرتْ أنَّ هناك حالة من الوعي بأهمية مثل هذه الأشياء، وبالتالي فهي بدأت في استعادة الكثير من منتجاتها القديمة التي كانت قد اختفت، وبالذات العبوات التي تحتوي قِطَعًا صغيرة من نوعية كانت قد فقدت زبائنها القدامى، والنزول إلى الأسواق بمنتجات جديدة من حيث النوعية، مثل الأشكال سابقة التجهيز، كالبيوت ومحطات البنزين والروبوتات.
هذه النوعية من المنتجات بشكل عام، تتجاوز كونها ألعابًا ترفيهية؛ فهي من الأهمية بمكان في تطوير القدرات الذهنية للطفل، وتنمية مهارات الابتكار لديه، وممارسة العمليات الرياضية الأكثر تعقيدًا.
بل إنها مفيدة في الجانب الطبي، سواء النفسي أو البدني؛ لأنها مجال مهمّ للتنفيس المفيد عن بعض الضغوط لدى الطفل بسبب العزلة مثلاً، وافتقاده لجماعات الأقران، ومعالجة بعض أنواع الإعاقات الذهنية والبدنية، وبالذات إعاقات الأيدي؛ فاستخدام هذه الألعاب بالذات الألعاب التي يستعمل فيها أدوات للفك والتركيب، من أهم ما يمكن لتمرين أعصاب الأيدي والأصابع.
وهذه الأساليب غير المباشِرة للعلاج مهمة جدًّا في جعل الطفل أكثر تقبُّلاً للعلاجات؛ لأنَّه يكره الطرق التقليدية التي تُشعِره بأنَّه مجرد طفل مريض، كما أنها تكون أكثر إرهاقًا بالنسبة له.
ونفس المنطق ينطبق على عملية التعلُّم؛ فقد ثبُتَ علميًّا، أنَّ استخدام الأساليب المُسَلِّية في تعليم الأطفال، وتلقينهم المعارف والمهارات المختلفة مُغَلَّفة بغُلاف مسلٍّ براق، أجدى في تأثيره من وسائل التعليم والتلقين التقليدية ، التي تجعل من عملية التعلُّم، مهمًّةً ثقيلة الوطء على الأطفال، بينما يُقبِل بحماسةٍ على الألعاب التعليمية. تمامًا مثلما نجد الأطفال يحفظون أغاني الأطفال المُسَلِّية بشكل أفضل من قدرتهم على حفظ المحفوظات والأناشيد الموجودة في كتاب المدرسة.
وفي الأخير؛ فإنَّ ظروف وباء "كوفيد- 19"، وتعضيدها لخيار التعليم عن بُعد، من بين النواحي الإيجابية التي أتاحها الوباء – لكل شيءٍ وجهَان: إيجابي وسلبي – لكي نعمل على تحسين عملية تأهيل الأطفال والنشء الجديد.