على الرغم مما حبا الله تعالى الإنسان به من أسباب القوة التي تجعله ينهض ويتحرك ويغيّر وجه الأرض هدما وعمارة؛ إلا أنه مع ذلك لا يخلو من الضعف الذي يكمن في دواخل نفسه، ويجعله ساكناً خاملاً لا يقوى على فعل شيء حين تأذن إرادة الله بذلك.
انظر إلى هذا الإنسان الغليظ الجواظ المتكبر؛ كيف يُعرّفه المرض حدّه، ويذكّره بأنه مخلوق ضعيف لا يقوى أن يرفع رأسه -الناضحة بالكبر والتسلط- أمام فايروس لا يُرى بالعين المجردة، لعله يرعوي عن التجبر في الأرض، ويمسك نفسه أن تظلم نفوس الآخرين!
أما العبد المؤمن على وجه الخصوص؛ فإن المرض يجدد شعلة الإيمان التي خبت في نفسه بفعل انشغاله بالسفاسف والمغريات والملهيات، لتذكره بأنه كان قادراً في حال صحته على خدمة هذا الدين والتضحية من أجله بقدر طاقته، وتحيي ضميره الساهي عن الأمانة التي حمّله الله إياها، حتى إنه ليتمنى أن يتعافى من مرضه حالاً كي يستدرك ما قصّر فيه، ويجدد العهد مع الله بأن يوقف نفسه له سبحانه.
ولو أن العبد المؤمن بقي مستحضراً على الدوام أن عليه اغتنام الصحة قبل السقم؛ لما رثى حاله بعد إقعاد المرض له، ولاحتسب أجر حركته المعتادة أثناء مرضه، كما هو الأجر قبل المرض، وزاد عليه أجر الصبر على الألم؛ ألمِ المرض الذي يرهق جسده ويسلبه الراحة، وألمِ الحرمان من طاعة المولى ونصرة دينه.
وإن كان المؤمن مأموراً باغتنام الصحة قبل السقم؛ فإن من الغفلة أن لا يغتنم المرض على الأقل بعد أن فرّط باغتنام الصحة، فهي فرصة له يحاسب فيها نفسه على ما فاته حال الصحة، ويؤنّبها ويحرّضها على البذل إذا رُفع البلاء وعاد قوياً سليماً من الأسقام..
وهي فرصة للتقرب إلى الله تعالى بالندم والدموع، والذكر والإنابة والخضوع، واستحضار قدرة الله عليه، ورحمته به، وعظيم آلائه ومكرماته، وجميل حلمه ولطفه..
وهي مناسبة ليجدد العبد علاقته بالقدير الذي بيده السقم والشفاء، فيتوجه إليه بالرجاء والدعاء بأن يعافيه من المرض، موقناً بأن الأدوية التي كتبها له الطبيب ما هي إلا أسباب قد تصيب وقد تخيب، وأن الشافي وحده هو الله تعالى الذي أمرنا باتخاذ الأسباب التي تحفظ النفس من الهلاك والسقوط بحبائل العجز.
وإن المرض كلما اشتد على العبد المؤمن؛ كلما ألجأه ذلك إلى تذكر الحقيقة التي يحجم أكثر الناس عن استحضارها، ألا وهي الموت الذي كتبه على كل مخلوق.. ويزيد هذه الحقيقة في نفسه ما يراه ويسمعه عن تزايد حالات الوفاة بالمرض ذاته الذي أصابه..
وهنا؛ تضطرب مشاعره، وتتداعى على عقله الخواطرُ؛ تصارع الذكريات.. تسحبه الذكرى للماضي البعيد والقريب، وتأخذه الفكرة ويطيش به الخيال إلى لحظة الفراق وما بعدها من أحداث.. والموفَّق حينها من وكّل أمره كله لله، وأحسن الظن به سبحانه، وربط على قلبه بأن الله يريد له الخير والرحمة، كيف لا وقد سبقت رحمته غضبه؟ كيف لا وهو عفوّ يحب العفو؟!
وكما أن استحضار حالة السقم ينبغي أن تخلق الدافعية في نفس المؤمن بأن تزيد من عملها وبذلها عند استعادة الصحة والسلامة؛ فإن استحضار الموت يجب أن يخلق دافعية أقوى وأعظم.. وهكذا المؤمن دوماً؛ مخلوق فاعل إيجابي، يتفاعل بإيجابية مع الأوامر الإلهية، ويتفاعل بإيجابية مع كل حدث أو فكرة أو ذكرى.
وندْبُ العبد المؤمن إلى اغتنام صحته قبل سقمه؛ هو في الحقيقة ندبٌ للجماعة المؤمنة بأن تستغل أوقات قوتها وأسباب هذه القوة، بل وتسعى جاهدة لتوفير هذه الأوقات، وإيجاد وإبداع هذه الأسباب، نائية بنفسها عن كل ما يصيبها بالوهن والضعف، ويُقعدِها عن الحركة، أو يجعل جهادها سقيماً مشتملاً على العيوب والنقائص ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
وما ينطبق على العبد المؤمن مما هو مطلوب منه عند حالة السقم؛ ينطبق تماماً على الجماعة المؤمنة التي تعاني اليوم من أسقام كثيرة لا تخفى على أحد، ما يوجب عليها أن تستحضر ضعفها أمام قدرة الله العظيم، فتلجأ إليه في الرخاء والشدة، مستمدة منه العون على القيام بوظيفة البلاغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي الدؤوب لتعبيد الناس لربهم وإقامة الحاكمية في الأرض، والتمسك بأسباب الصحة والقوة بأشكالها المتعددة، ووسائلها المتجددة التي لا حصر لها، وأهمها أن يحب أفرادها بعضهم بعضاً، ويترفعوا بفقههم وحكمتهم عن أسباب التنازع والخصام الذي أوهن الأمة، وألصق بها ما أفرح عدوّها من أسقام وأوجاع سهّلت هزيمتها، وأسدلت عليها عباءة الذل والهوان!