كلوا مما تنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو!!
"مهاتما غاندي"
إن سلاح #المقاطعة الاقتصادية هو أحد وسائل الاحتجاج والنضال السِّلمي لتأديب بعض الدول وأرباب بعض الشركات الكبرى في العالم.
إن الضغط بسلاح المقاطعة يتطلب حُسن الترتيب والتنظيم وتوفير البدائل المناسبة ، كما يتطلب التضحية واتباع سياسة النفس الطويل، وهذا ما سنراه في أسلوب غاندي النضالي ضد الاستعمار البريطاني للهند على مدار أكثر من ثلاثين عاماً.بين يدي الموضوع
لقد زخر التاريخ الإنساني على مَرْ العصور، بالكثير من الأمثلة والتجارب التي استُخدِم فيها سلاح المقاطعة الاقتصادية كوسيلة من وسائل الضغط لإخضاع الطرف الآخر، ومن التجارب الفريدة والناجحة الجديرة بالذكر والجديرة بتسليط الضوء عليها هي التجربة التي اتبعها المهاتما غاندي ضد الاحتلال البريطاني للهند، وذلك لما حققته من نتائج مبهرة أبهرت العالم إلى يومنا هذا.
وقبل الخوض في تفاصيل ما قام به غاندي من أجل حرية بلاده يجدر بنا أن نذكِّر بإحدى قناعاته التي قال أنه استمد منها الإصرار على النضال حتى يحقق ما يصبو إليه.
قال غاندي: "إن التعرف على نبي الإسلام ورسالته هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند العظيم الخالد إلى الأبد، محمد بن عبد الله رسول الإسلام كان قادراً على السيطرة على العالم كله، ومع ذلك ترك نفسه إنساناً بالإسلام، ولم تستطع شهوة الشيطان في السيطرة أن تحوم حتى حوله، فعاش نبي الإسلام رسولاً بشراً عادياً أمام إخوانه من الناس، كواحد منهم رغم أنه اصطفاء إلهي".
أولاً: من هو المهاتما غاندي
- ولد غاندي عام 1869م، في أسرة من النخبة في ولاية "بوربندر" في شمال غرب الهند، حيث كان والده رئيس وزراء الولاية.
- سافر غاندي إلى بريطانيا حيث حصل غاندي على إجازة المحاماة من جامعات بريطانيا.
- قرر غاندي أن يذهب إلى جنوب إفريقيا هو وأسرته، وهناك اشتغل بالدفاع عن حقوق عمال الزراعة الهنود.
- وبسبب سوء معاملة المهاجرين الهنود في جنوب إفريقيا قام غاندي بإنشاء ما يُسمى بالكونجرس الهندي في "ناتال" وذلك للنضال ضد التمييز العنصري من خلال الاحتجاج السلمي.
- أُلقي القبض على غاندي بسبب ممارساته الاحتجاجية في جنوب إفريقيا، ولكن أمام تصعيد الاحتجاجات للمطالبة بالإفراج عن غاندي اضطرت بريطانيا إلى الإفراج عنه.
ثانياً: عودة غاندي إلى الهند وبداية النضال السلمي ضد الاحتلال البريطاني
- عاد غاندي إلى الهند عام 1915م غير أنه توقف عن مزاولة مهنة المحاماة أمام محاكم الهند البريطانية وتفرغ للنضال السلمي من أجل استقلال بلاده لما لمسه من معاناة الشعب تحت وطأة الاحتلال البريطاني.
- عقب عودة غاندي بسنوات قليلة وتحديداً في شهر إبريل عام 1919م وقعت "مجزرة أمريتسار" التي قامت بها بريطانيا ضد الهنود والتي أسفرت عن مقتل المئات وجرح أكثر من ألف شخص.
وقعت "مجزرة أمريتسار" بأمر من العميد البريطاني "ريجنالد داير" حيث أمر بإطلاق النار على عشرات الآلاف من الهنود الذين توافدوا على المدينة لحضور المهرجان السنوي في المدينة خشية أن يتحول هذا التجمع الكبير إلى مظاهرات واحتجاجات ضد ضريبة الحرب التي فرضتها بريطانيا على الهنود، وضد فرض التجنيد الإجباري.
- في عام 1920 قال غاندي جملته الشهيرة: "احمل مغزلك واتبعني". وسبب هذه المقولة هو أن غاندي لاحظ أن بريطانيا تحتكر شراء القطن الهندي الطبيعي بثمن بخس، ثم تقوم بتصنيعه وإعادة بيعه للهنود بأغلى الأثمان فقرر غاندي أن يقاطع الملابس القطنية البريطانية، وحين تبعه عشرات الآلاف من الهنود، كانت النتيجة خسارة كبيرة للشركات البريطانية قدرت بالملايين، ودفع غاندي ثمن ذلك عدة أشهر في السجن.
- مسيرة الملح في الهند
في عام 1931م طالب غاندي السلطات البريطانية بتخفيض سعر الملح الذي تبيعه للهنود بأسعار باهظة وإلا سيترتب على ذلك ما لا تحمد عُقباه للاقتصاد البريطاني، غير أن بريطانيا لم تكترث بطلب غاندي ومن معه.
قرر غاندي أن يُعاقب بريطانيا على رفضها لطلبه من خلال طريقة غريبة وغير متوقعة فقام غاندي ومعه 79 فرداً من أتباعه بمسيرة قطعوا فيها مسافة قدرها 300كم استمرت لبضعة أسابيع متواصلة لم يستريحوا فيها إلا يوم الاثنين من كل أسبوع؛ وذلك من أجل هدف مُحدد وهو استخراج الملح بأنفسهم من أجل الاستغناء عن الملح البريطاني.
عندما انتشر خبر المسيرة صمم الهنود على المشاركة فيها لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الملح، وقد أدى هذا التصرف من غاندي ومن معه إلى أن اضطرت بريطانيا إلى توقيع "معاهدة دلهي" عام 1931م، التي اعتُبرت مُذِلَّة لبريطانيا.
الهنود يحرقون ملابسهم!
في عام 1931 قاد غاندي حملة مقاطعة الملابس الأجنبية من أجل تحرير الاقتصاد الوطني. وخصَّص أربع ساعات يومياً لينسج بنفسه قماشاً على مغزل يدوي حتى يصير مرة أخرى قدوة للناس، فيستخدموا هذا القماش البسيط المغزول داخل البلاد وبأيدي الهنود بدلاً من شرائهم المغازل البريطانية التي قضت على صناعة النسيج في الهند.
ونتيجة لما قام به غاندي وتفاعُل قاعدة عريضة من الشعب الهندي معه قام الهنود وخاصة الأغنياء والتجار بحرق ما لديهم من ملابس واردة من الخارج، ويُذكر أن في مدينة "بومباي" وحدها تم حرق مائة وخمسين ألف ثوب من القماش المستورد.
ثالثاً: تصعيد وتيرة المقاطعة ضد بريطانيا
قام غاندي بتصعيد وتيرة المقاطعة ضد بريطانيا، وتمثل ذلك في:-
- رفض غاندي أن يقوم بحلاقة ذقنه بشفرة بريطانية وترك حلاقتها حتى حلقها بشفرات مصنوعة في بلاده.
- حث غاندي الهنود على الامتناع عن العمل في مؤسسات المستعمر البريطاني.
- شجع غاندي على مقاطعة بنوك وشركات ومؤسسات المستعمر البريطاني.
- طالب غاندي الشعب الهندي بالتقشف والاستغناء عن البذخ لتحقيق متطلبات مرحلة مقاومة المستعمر البريطاني.
- لجأ غاندي إلى تنظيم المسيرات الصامتة، ورفع الأعلام السوداء على المباني، كما حث على تشكيل لجان جمع التبرعات لدعم المتضررين من الانقطاع عن العمل في مؤسسات المحتل البريطاني.
رابعاً: انحياز غاندي لطبقة الهنود المنبوذين "الداليت"
من الأعمال العظمى التي قام بها غاندي داخل المجتمع الهندي نفسه هو نضاله من أجل المساواة الاجتماعية لصالح "الداليت"، وهي الطبقة المعروفة باسم "المنبوذين" حيث تحرم هذه الطبقة إلى يومنا هذا من تقلد مناصب ووظائف معينة، وتسند إليهم المهام التي تتسم بالخطورة، والمهام التي تتسم بالقذارة مثل جمع الأبقار النافقة والمتحللة.
خامساً: أسباب نجاح غاندي في مسيرته النضالية ضد الاحتلال البريطاني للهند
1- لاحظ غاندي أن الحكومة الهندية وقطاع عريض من الشعب يوالون الاحتلال البريطاني ويتعاونون معه مما أكسب الاحتلال القوة على ترسيخ دعائم وجوده في الهند، فقامت خطة غاندي على التفكير في كيفية سحب هذه القوة "الحكومة والشعب" من تحت هيمنة الاحتلال البريطاني وتثويرها ضده وبذلك تتوحد كل القوى على مقاومة الاحتلال، وهنا يمكن رحيل الاحتلال وجلائه عن البلاد.
2- وما ساعد غاندي على كسب ثقة الشعب هو حرصه على أن يكون في طليعة كل عمل ينادي إليه أو يطالب به، حيث عاش معاناة البسطاء والطبقات التي ترزخ تحت ظلم المحتل ومؤيديه.
3- اشترط غاندي على رموز الحركة الوطنية أن يشاركوا الشعب في المقاطعة التي يطالبوا الشعب بها وطالب كل واحد منهم أن ينتج ألفي ياردة من النسيج شهرياً كي يكونوا قدوة للشعب في التضحية والنضال. من هنا كانت دعوات النضال والمقاطعة موجهة للجميع ولصالح الجميع، دون تفرقة عنصرية ولا طبقية ولا أيدولوجية.
4- حرص غاندي على نقل الحراك الشعبي داخل بلاده لدول الغرب، وبين لهم حجم المعاناة التي يعانيها الشعب تحت وطأة الاحتلال البريطاني مما جعل دول الغرب تتفهم عدالة قضية بلاده ومساندتها.
5- تُوِّج النضال الهندي من أجل الاستقلال بالنجاح بعد أن أدى هذا النصال إلى خسارة الاقتصاد البريطاني خسائر فادحة، وكانت هذه الخسائر الاقتصادية إحدى العوامل الأساسية التي جعلت بريطانيا تقرر الانسحاب من الهند عام 1947م.
سادساً: بعض من أقوال غاندي
1- الرجل الذي يطمح إلى رؤية روح الحقيقة، لا يستطيع أن يعتزل الحياة، ولذلك قادني تعبّدي للحقيقة إلى حقل السياسة، وأستطيع القول دون تردد أن الذين يزعمون أن الدين لا علاقة له بالسياسة لا يعرفون معنى الدين.
2- تذكروا أنَّه على مر التاريخ كان هناك طغاة ومجرمون، وكانوا يبدون للوهلة الأولى لا يُقهرون، ولكنهم في النهاية كانوا دائمًا يسقطون.
3- الدين الذي لا يراعي الشؤون العملية ولا يساعد على حلها، ليس ديناً.
4- النصر الذي حقق بواسطة العنف كالهزيمة لأنه لحظي.
5- القوة لا تأتي من مقدرة جسمانية بل تأتي بها إرادة لا تقهر.
6- في البداية يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك ثم تنتصر.
7- يجب أن تكون أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.
8- إنه من الفخر أن يذهب الإنسان إلى السجن من أجل قضية مُحقة.
9- سيتجاهلونك ثم يحاربونك ثم يحاولون قتلك ثم يفاوضونك ثم يتراجعون، وفي النهاية ستنتصر.
10- يكمن المجد في محاولة الشخص الوصول إلى هدف وليس عند الوصول إليه.
سابعاً: العقاب الذي تلقاه غاندي نتيجة لنضاله ووفاته
بلغ مجموع الفترات التي قضاها غاندي في السجن طوال مشواره النضالي من أجل استقلال بلاده سبع سنوات. كما تعرض غاندي لستة محاولات لاغتياله، وقد لقي مصرعه في المحاولة السادسة حيث تم اغتياله في أوائل عام 1948م على يد أحد الهندوس المتعصبين وكان عمر غاندي حينها يبلغ 78 عاماً.
وأخيراً أقول
إن المقاطعة بالنسبة لغاندي كانت عملاً رمزياً يهدف إلى سَرَيَان روح المقاومة في نفس الشعب الهندي لاستعادة ثقته بنفسه، وبالتالي يستطيع استرداد كرامته المسلوبة التي لن تحرر الأرض بدونها.