{ولو شاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض} [محمد:4].
لمواجهة فتنة السجن والسجّان يقضي الواجب الشرعي والأخلاقي لدى المسلمين أن تعمل ثنائية فاعلة قد يطلق عليها "ثنائية البلاء" فإن عملت بنجاعة وفاعلية، وقام أطرافها كلٌ بواجبه ومستحقاته كان إنجاز الواجب والخروج من بلاء الأسر ممكناً وميسراً، وإلا استمر البلاء لفترات طويلة "عشرات السنين" ومعه تعليق الفريضة الواجبة بإنهاء الأزمة والابتلاء، وهو ما تبدو بعض ملامحه واضحة في هذه المرحلة.
الطرف الأول في الثنائية هو الأسير الذي يعاني مرارة الأسر والحرمان من الحرية، ومن كثير مما فطر الله الناس عليه، وظيفة الأسير في هذه الثنائية هي التحلي بالصبر والتجمل بالثبات والإكثار من العبادة واللجوء الى الله والاشتغال بالعلم والإيجابية كيوسف عليه السلام ما أمكنه الى ذلك سبيلا، وألا يسمح الأسير للأغلال أن تقيّد نفسيته عن مواجهة التحديات ولا للآثار الاجتماعية الناتجة عن الأسر أن تثقله عن تحمل مسؤولياته، أو للغشاوة العقلية أن تعميه عن معرفة المصالح والمفاسد، وكذا أن يستمر في مواجهة سلبيات المجتمع المغلق بالجماعية والشورية وحرية الرأي والتعبير، ويمكن أن نلاحظ أداءً مميزاً للأسرى في هذا الجانب.
أما الطرف الثاني في هذه الثنائية فهو المجتمع الإسلامي، وتحديداً جماعاته المنظَمة والمقاوِمة، فوظيفته أن يستثمر وسعه الذي منحه الله إياه {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ويعتمد على الله (اعقلها وتوكل)، فهذا هو الموقف السليم، وهذا هو التوكل الحقيقي، ومن المناسب الإشارة أن الوسع هو أكبر من الجهد، والمؤمن القوي بوجه خاص مطالب بما هو أكبر وأكثر {وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا}، أما في حالة الضعف {فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين}، وفي المقابل فإنّ إهمال أو ضعف استثمار الوسع، والاكتفاء بالجهد، ثم الإدّعاء بأن الله معنا، فهذا هو التواكل.
هكذا تكون أحد أهم وظائف الجماعة المؤمنة تعبئة القدرات وتسخير المقدرات للوصول إلى أمر الله باستثمار الوسع بما يضمن وفي إطار سنن الله عز وجل القاضية بأنّ النتائج مرتبطة بمقدماتها، والمسببَات معلقة بأسبابها، أن يتحقق الهدف المنشود في إنهاء فتنة الأسر المضنية، فإن لم يتحقق فالضعف هو بالأخذ بالأسباب وليس في قدر الله تعالى {ويفعل الله ما يشاء}.
حققت جماعات المقاومة في فلسطين إنجازات معينة وهامة في مجال إطلاق سراح الأسرى، وصفقة وفاء الأحرار 2011 مثال واحد شامخ على ذلك، ولكنها لم تصل إلى الوسع المطلوب ولا إلى النتائج المرجوّة، فما زال مئات الأسرى على الأقل في الأسر رغم مرور عقود على فتنتهم في القيد والمعاناة والحرمان، وما نائل البرغوثي، وكريم يونس، ومحمود عيسى إلا شهود على هذا.
هكذا هي "ثنائية الابتلاء": ابتلى الله الأسير بفتنة الأسر، وابتلى الأحرار من الصالحين بفتنة المسؤولية عن إنهاء أسر إخوانهم مهما كلف ذلك من ثمن.
"والله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون".