تشهد ساحات الإعلام والإفتاء في مصر والعالم العربي هذه الأيام، ولاسيما منصَّات التواصل الاجتماعي، الكثير من الجدل حول تصريحات الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة، والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بفرع جامعة الأزهر بالإسكندرية، بشأن جواز زواج المسلمة بغير المسلم.
وبعيدًا عن الجدل الفقهي الذي أثاره هذا التصريح، وردَّت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف عليه بما يدحض هذا الكلام، ويعيد التأكيد على ثوابت العقيدة الإسلامية؛ فإنَّ هذا التصريح وما ثار عليه من جدل، يفتح أمامنا الكثير من الأمور المتعلقة بأقلِّيَّاتنا المسلمة في بلدان الغرب.
في حقيقة الأمر، فإنَّه من بين الظواهر والمشكلات القائمة عند المسلمات اللواتي يعشنَ في مجتمعات اللجوء والاغتراب الغربية، ولاسيما في بلدان أوروبا الغربية الفرانكفونية، مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا، هي قضية زواج المسلمات من رجال غير مسلمين.
بدايةً؛ فإنَّ طرح هذه الظاهرة، والحديث عنها، له أهميته في حَدِّ ذاته؛ حيث إنَّها تفتح المجال واسعًا للحديث عن نوعيات من القضايا المخفية أو الآخذة في الانتشار، ولكنها لا تحظى بكثير اهتمام من الدعاة والتربويين والمؤسسات العاملة في حقول العمل الإسلامي المختلفة.
وقضية زواج المسلمات من غير مسلمين واحدةٌ من هذه القضايا، والتي تشمل بجانب ذلك، طائفة واسعة من القضايا المتعلقة بالمرأة المسلمة في مجتمعات الأقليات والاغتراب، مثل التعنيف وضياع الحقوق بسبب عدم المعرفة الصحيحة بقوانين هذه البلدان، أو السقوط في مهاوي الجهل وعدم معرفة القواعد الاجتماعية والسلوكية الناظمة لهذه المجتمعات.
كذلك من بين أهم هذه القضايا، وقضية تطبيق قوانين هذه البلدان المتعلقة بالأمومة والطفولة على الأطفال الصِّغار مما لا يتفق مع شريعتنا ولا مع القواعد الاجتماعية المرعية في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، مثل مصادرة الطفل من أبوَيْه لأسباب متعلقة بالإنفاق أو العنف الأسري أو ما شابه.
وفيما يخص القضية التي أثارتها تصريحات آمنة نصير، وعادت عنها على إثر الهجوم الذي تعرَّضت له، والمتعلِّقة بزواج المسلمة من غير المسلم؛ فإنَّه، من شديد الأسف، لا توجد دراسات حقيقية مُحَكَّمة ترصدها، حتى على الأقل واقعها الإحصائي.
ويعود ذلك إلى عددٍ من الأسباب، أوَّلها الظروف القانونية والسياسية والاجتماعية وحتى الأمنية الصعبة التي يعيشها العرب والمسلمون المهاجرون في هذه البلدان، وتفرض عليهم حالةً من الانغلاق على الذات والجماعة القريبة.
السبب الثاني، هو ارتباط هذه القضية بعددٍ من الأمور ذات الحساسية، مما يمنع إجراء دراسات سليمة عنها، في ظل إغلاق مجتمع البحث –الفتيات والسيدات المسلمات– هذا الملف بوجه الباحثين والصحفيين والإعلاميين بشكل عام، ومِن بينها هذه الأمور، قضية العقيدة؛ حيث فئة منهنَّ يرتبط هذا الأمر لديها بمواقفَ مبدئيَّةٍ تباعدنَ بموجبها عن صميم هويتهنَّ الدينية والاجتماعية، وكذلك اتصالها بقضية الحريات الشخصية، والقوانين في هذه المجتمعات، تكفُل للأشخاص غلق المجال تمامًا أمام أي حديثٍ في هذه النوعية من الأمور.
إلا أنَّه، ومن خلال شهادات أدلت بعض الأوساط العربية والمسلمة المقيمة في بلدان المهاجر، ومن بينها، مروان حمدي، وهو باحث مصري مقيم في النمسا، بالإضافة إلى بعض المحاولات التي قام بها بعض المنتسبين إلى أوساط بعض الجماعات الإسلامية؛ فإنَّنا يمكن القول إنَّنا أمام مشكلة متعددة الأبعاد، وعلى أكبر قدرٍ من الأهمية، تخرج بها عن حيِّز القضية الأصلية، وهي زواج المسلمة بغير المسلم.
أولاً؛ تنقسم هذه الفئة من السيدات والفتيات المسلمات إلى ثلاثة أقسام، الأول، هو قسم يجهل بالفعل طبيعة الأحكام الشرعية المتعلِّقة بهذا الأمر، وبأنَّ ذلك مُحرَّم في الإسلام.
الفئة الثانية، تعلم بتحريم الإسلام لذلك، ولكنها تقوم بهذا ترخُّصًا بعد حصولها على فتاوى بذلك من بعض "علماء" الدين المحلِّيين، وفي الغالب يكونوا من بلدان المغرب العربي، لأسباب قد تكون قانونية تتعلَّق بالحصول على الإقامة مثلاً، أو اجتماعية وأخلاقية، تتعلق بتفادي الوقوع في الزنا والعلاقات المُحَرَّمة، مع كون غالب ذكور هذه المجتمعات من غير المسلمين.
في هذه النقطة الأخيرة، يُخالِف الذين أفتوا بذلك ما توافق جمهور علماء المسلمين، من أنَّ الأحكام المتعلِّقة بذلك، هي أحكام ثابتة، ولا تخضع للظرفية أو ما شابه، وبالتالي؛ فلا مجال للترخُّص فيها.
الفئة الثالثة، هي فئة من الفتيات والسيدات المُسلمات اسمًا فقط، ولكنهنَّ انفلتنَ من الانتماء للدين، واتباع أحكامه.
وكلٌّ من هذه الفئات الثلاث مرتبطٌ بمجموعة من المشكلات التي يجب فحصها.
الفئتان الأولى والثانية، المشكلة الأساسية المتعلقة بهما، هو ضعف جهود المؤسسات والعلماء الأفراد في التعامل مع مثل هذه النوعية من القضايا.
صحيحٌ أنَّ هناك دراساتٍ موجودة، وفيها كل الإجابات عن مختلف القضايا والمسائل المتعلقة بالأقليات المسلمة، وبأحكام الشريعة بشكل عام، لكنها لا تصل إلى الكثير من الفئات المستهدَفة بها، فقط تصل للباحثين والباحثات عن إجابات.
فمن المعروف بشكل عام، أنَّ العملية المعرفية ذات طرفَيْن، وبينهما مُدخَلات، ولو لم يتم إيصال هذه المُدخَلات إلى المُتلقِّي؛ ففي كثير من الأحيان لن يكون على علمٍ بها.
فغالب الحال ما نجد منصَّات ووسائل النشر والإعلام المسلمة التي تعمل في هذه المجتمعات، تهتم فقط بقضايا شائعة للغاية، وذات تكرار جعلها واضحة أمام الجمهور المُستهدَف بها، مثل الطعام الحلال، ومواقيت الصلاة والصوم وأحكامهما، بالذات في الدول ذات الطبيعة الجغرافية النوعية، مثل الدول الإسكندنافية التي لها طبيعة فريدة في ظهور وغروب الشمس.
أما ما يتعلَّق بمثل هذه النوعية من القضايا؛ فإنَّ الاهتمام بالنشرِ عنها؛ ضعيف، على الأقل بشكلٍ مقارَن، استنادًا لقاعدة لا تصح في البحث العلمي، وهي أنَّ هذه الأمور بديهية؛ فلا يُوجد داعٍ للإعلان عنها؛ حيث يتناسى هؤلاء أنَّها بديهيَّة للعلماء ومؤسسات البحوث الإفتائية والشرعية بشكل عام، ولكنها ليست كذلك لأصحاب الشأن، وهؤلاء ينبغي بذل المزيد من الجهد للوصول إليهم.
فحتى في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وسائر العلوم الطبيعية؛ فإنَّ البديهيات والمُسَلَّمات؛ ينبغي أنْ تُذكَر في برهان المعادلة المطلوب معالجتها وحلِّها، ولكن ضعف الخبرة وأسباب أخرى، تقود إلى تغافُل التأكيد على بعض الأمور.
وهنا نصل إلى نقطة شديدة الأهمية والخطورة في نشاط بعض الجماعات والتنظيمات التي تنسب نفسها للمشروع الإسلامي، وتتسيَّد ساحات العمل الإسلامي، وخصوصًا الإفتائي، وهي قضية الانتقائية في القضايا التي يتم التعامل معها؛ حيث قد تغلِب اعتبارات التنظيم على اعتبارات العمل الإسلامي الشامل بمفهومه العام.
وهذه الانتقائية تتم إما في القضايا التي يتم الاهتمام بها أو في الجمهور المُستهدَف؛ حيث إنَّه في الغالب، يتم التعامل مع مجموعات المهاجرين الجُدد لضم المزيد من الأتباع، ويكون الجهد الإغاثي والمعلومات الأَوليَّة، مثل مواقيت الصلاة وما إلى ذلك، على رأس قائمة الأولويات.
صحيح أنَّ ذلك مطلوب، وبشدة أيضًا، لكن التعمُّق في مختلف الأمور، لا يتم أو لا يتم بالشكل الكافي على أقلِّ تقدير.
ومثل ذلك، أنَّه لا توجد آلية عمل واضحة وسليمة، واستكمَلَتْ أركانها المؤسسية والقانونية للتعامل مع ظاهرة نزع البُنُوَّة لو صحَّ التعبير من الآباء والأمهات المسلمين لأي اعتبار، مثل إساءة المعاملة والعنف الأسري وعدم الإنفاق، وفق منظومة القوانين المعمول بها في هذه البلدان.
الفئة الثالثة، فئة المُتفِّلتات من هويتهنَّ الأصلية؛ فإنَّها بدورها ترتبط بمنظومة معقدة من الأزمات والمشكلات، وهي في الغالب الفئة الأكثر شيوعًا، ولا توجد جهود واضحة لمخاطبتهنَّ.
ومن خلال ما تم جمعه من شهادات في هذا الصدد، فإنَّ السبب الأساسي في هذه المأساة الحقيقية، المشكلة المزمنة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، والمتعلِّقة بالخلط الحاصل بين الدين وأحكام شريعته، وبين الأعراف والعادات والتقاليد، وسيادة الطبيعة الذكورية عليها.
ونحن من خلال إحصائيات حكومية وحقوقية، محلية وكذلك تصدر عن مؤسسات دولية لها سمعتها المحترمة، نعلم حجم المظالم التي تتعرض لها المرأة المسلمة باسم الدين، سواء فيما يخص ذمتها المالية، أو العنف الأسري، أو في نهب حقوقها في المواريث.
كل هذه المشكلات، كثيرًا ما نجد بعض عديمي الدين يخرجون يبررون للذكور ما يقومون به من جرائم ومظالم باسم أحكام الشريعة.
كذلك هناك منهنَّ مَن وُلِدْنَ وتربَّيْنَ في المجتمعات الغربية ولم يحصُلنَ على القدرِ الكافي من الثقافة الإسلامية، ولم يتلقَّيْنَ المعارف الدينية الكافية حول فِقه الإسلام في الزواج، وفي أي شيءٍ آخر في مجتمعاتهنَّ الأصلية بسبب قصور منظومة التعليم والثقافة والإعلام الرسمية والدعوية في بلدانهنَّ التي جِئنَ منها.
ولكن هذا شأنٌ آخر ومشكلة مختلفة، ترتبط بما سبقت الإشارة إليه في صدد ضعف جهود التوعية والوعظ والإرشاد الديني السليم.
ويقول حمدي في هذا الصدد، إنَّه ثمَّة مشكلة ينبغي وضعها في الحسبان عند الحديث عن مشكلة الذكورية في مجتمعاتنا، وهي أنَّ أعداد الرجال المسلمين في سن الزواج هناك، سواءٍ مِن المُتَجنِّسين وغير المُتَجنِّسين، تفوق بكثير أعداد النساء، ولكنَّ الرجال يفضِّلون دائمًا استقدام زوجة من الوطن وليس الزواج مِن المتواجدات بالفعل في نفس المجتمع، رغم المصاعب الشديدة التي يتطلَّبها استقدام الزوجة.
وهذا له الكثير من الأسباب، منها عدم الثقة في "هذه التي تركت ديارها، وهاجرت في طرق اللجوء الوَعِرَة بكل مخاطرها"، وهي نظرة قاصرة للغاية، لأنَّه هو نفسه ضحيَّةً ومرَّ بنفس هذه الظروف، ويعلم تمامًا أنَّه حتى لو تعرَّضت الأنثى للاغتصاب؛ فإنَّها ضحية لا ينبغي بالمطلَّق ظلمها بجريمة ارتكبها "حيوانٌ" آدمي، بل على العكس؛ فإنَّه من المفترض توفير الحماية النفسية لها، والتضامن معها.
هذه الصورة ترجِّح عند المسلمات المُقيمات نقطة الإعراض عن الزواج بمسلمين بهذه العقليات ذات الطبيعة القاحلة فكريًّا ونفسيًّا، ويفضِّلن "الزواج" بالأجنبي من أبناء مجتمعات المهاجِر واللجوء، حتى ولو كان غير مسلمٍ.
في حقيقة الأمر، فإنَّ هذه القضية هي من أخطر ما يكون، وفيها الكثير من الحُزن الذي نشعرُ به، وأول طريق نحو علاجها في مجتمعات المهاجِر واللجوء، أنْ يتعلَّم دعاتنا أنَّ مخالفة أحكام الشريعة من جانب المسلمين لا يستوجب عقابهم، وإنما يستوجب هدايتهم، والنساء أَوْلى بذلك في ظل ظروفهنَّ شديدة التعقيد، والتي تجعلُهنَّ الفئة الأجدر بالرعاية لأنَّها الأقل تمكينًا والأكثر قابلية للتعرُّض للظلم، وفق مختلف الدراسات الاجتماعية والنفسية المتعارَف عليها.
يجب أن تتعلَّمَ مؤسساتنا الدعوية وعلماؤنا عدم الانتقائية في القضايا والجمهور المُستَهدَف، لأي اعتبار تنظيمي أو حتى عن خطأٍ فنِّيٍّ في الممارسة العملية، وأنَّه إذا ما وجدت مسلمةً متزوجِّةً من غير مسلمٍ من بلدان الأقليات حتى بسبب تفلُّتها من دينها وهويتها القومية الأصلية؛ فإنَّ الواجب علينا وعظها وهدايتها؛ لا تجاهلها أو لعنها!
وهذا ليس إفراطًا في التسامُح على حساب الشريعة؛ بل هو منهج الأنبياء والمرسلين جميعًا، وجاءنا به القرآن الكريم على لسانِ خليل الرحمن، إبراهيم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما قال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سُورَة "إبراهيم" – الآية 36].
وصدَّق عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، عندما رَفَض أنْ يطبِقَ مَلَك الجبال، الأخشبَيْن على أهل مكة والطائف عندما آذاه أئمة الكفر وسفهاء القوم، وقام لجنازة يهودي، وحزن لأنها نفسٌ أفلتت من هدايته.
نحن هداةً ولسنا دعاة جهنم.. هذا هو منهج الإسلام، خاصة في مثل هذه الأوقات الحالكة التي تفرِض التعاطُف مع الضالين؛ لا زيادة شقائهم وضلالهم!!