خدعونا فقالوا أن فرنسا هي بلاد النور.
وضللونا فقالوا أن فرنسا هي أصل الجمال، والموطن الأصلي لأزكى العطور وأروع الأزياء وبيوت الموضة.
وأوهمونا بقولهم أن فرنسا هي بلد الحريات وحقوق الإنسان.
إن كل هذه الأقوال البراقة الخادعة والعبارات المُضللة والمزاعم الباطلة حول فرنسا جعلت كثيرين يتوقون لزيارة فرنسا لرؤية ما يسمعون من أساطير عن فرنسا، بل وقام كثيرون بالهجرة إلى فرنسا وبذلوا جهوداً مُضنية وقدموا تنازلات لا حصر لها من أجل الحصول على الجنسية الفرنسية.
إن كل من انخدعوا بكل ما سبق من عبارات وشعارات ما إن وصلوا إلى فرنسا حتى صُدِموا صدمة الشاب القوي الوسيم ليلة زفافه، حين اكتشف أن عروسه عجوز شمطاء هتماء بلهاء قد غرَّرت به بالمساحيق وأوقعته في حبال شَرَكِهَا بالتصابي والدلال.
في السطور القليلة القادمة سنلقي الضوء على بعض النماذج لمصادرة الآراء واضطهاد أصحاب الفكر المخالف داخل فرنسا، مع التنبيه على أن ما سنلقي عليه الضوء ما هو إلا قليل من كثير، وغيض من فيض المستنقع الآسن الذي انخدع به من انطلى عليهم ترويج السَّحرة البطلة.
نماذج من اضطهاد الفرنسيين أصحاب الفكر المخالف في العصر الحديث.
1- اضطهاد المؤرخ الفرنسي روبير فوريسون والاعتداء عليه
يُعد المؤرخ الفرنسي روبير فوريسون واحداً من أبرز مُنكري الهولوكوست.
قام روبير فوريسون بنشر مقالاته في (مجلة المراجعة) التاريخية وغيرها من المطبوعات، وكذلك أرسل العديد من الخطابات إلى الصحف الفرنسية وخاصة (صحيفة لوموند) مُنكراً فيها جوانب مختلفة من أحداث الهولوكوست .
كما أنكر فوريسون وجود ما سُمِّي بغرف الغاز في معسكرات الاعتقال النازية، وأنكر القتل المنهجي لليهـود الأوروبيين أثناء الحرب العالمية الثانية...إلخ.
في عام 1989م قام ثلاثة شباب يهود ينتمون إلى منظمة تسمى "أبناء ذكرى اليهود" بالهجوم على فوريسون وتكسير أسنانه وأصابعه كما تسببوا له في إصابات شديدة في رأسه نتج عنها أن ظل في غيبوبة لمدة شهرين.
وفي عام 1990 تعرض فوريسون للمحاكمة وحكم عليه بـ:-
- غرامة 120 ألف فرنك فرنسي.
- منعه من إلقاء الدروس والمحاضرات في الجامعة.
- محاكمته بتهمة تزوير التاريخ وترويج لأفكار الكراهية.
- الحكم عليه بالسجن لمدة مخففة "ثلاثة أشهر" نظراً لسنه.
وفي شهر أكتوبر 2018م مات المؤرخ الفرنسي روبير فوريسون معزولاً مُهملاً في منزله بمدينة فيشي الفرنسية.
2- اضطهاد الفيلسوف والكاتب الفرنسي روجيه جارودي ومحاكمته
بعد مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان أصدر جارودي بياناً نشر في جريدة اللوموند الفرنسية بعنوان (معنى العدوان الإسرائيلي بعد مجازر لبنان) وقد وقع البيان مع جارودي كلاً من (الأب ميشيل لولون) و (القس إيتان ماتيو).
كان هذا البيان بداية صدام جارودي مع المنظمات الصهيونية التي شنت حملة ضده في فرنسا والعالم كله.
وفي عام 1998م حكمت محكمة فرنسية على جارودي بتهمة التشكيك في محرقة اليهود في كتابه "الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل"، حيث شكك في الأرقام الشائعة حول إبادة يهود أوروبا في غرف الغاز على أيدي النازيين.
إن جارودي لم ينكر حقيقة المحرقة، بل أراد جارودي أن يبين أن النازية هي نزعة عنصرية استعمارية لم تستهدف اليهود وحدهم، وإنما استهدفت شعوباً وقوميات أخرى. وقال جارودي أن أحداث المحرقة ضخمت وأعطيت أبعاداً أسطورية غير تاريخية، من أجل توظيفها في صراعات الحاضر. وإن المأساة اليهودية التي تمت بالكامل على المسرح الأوروبي وظفت لحجب حروب الإبادة وجرائم التقتيل والتهجير القسري التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، مُستنداً في ذلك على تاريخه كعضو في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني في سنوات الحرب العالمية الثانية.
وأثناء محاكمته، قال جارودي في إجابة عن أسئلة القاضي (يُخيل لي بأنني أحاكم على كتاب لم أكتبه.. ذلك لأن كتابي يُعالج الأساطير المكونة للسياسة الصهيونية ولم أتعرض إلى الديانة اليهودية)، ومما ذكره جارودي للقاضي قوله (إن كتابي قد تمت ترجمته الى 29 لغة آخرها اللغة الرومانية, وأعدَّت عنه 22 أطروحة وكتب عنه 54 كتاباً وذلك يعني أن فكره لا يخص فرنسا فقط بل العالم بأكمله) الأمر الذي أربك فريق الادعاء الذي تكون من منظمات يهودية عديدة حشدوا لها عدداً كبيراً من المحامين الدوليين.
انتهت محاكمة جارودي التي استمرت يومين كاملين بالحكم ضده بالسجن لمدة عام مع إيقاف التنفيذ.
3- التوقف عن إعادة طبع أعمال الروائي الفرنسي لويس فرديناند سيلين
الكاتب الروائي والطبيب الفرنسي سيلين يُعد واحداً من أعظم روائي فرنسا في القرن العشرين، لكن تم التشهير به والإساءة إليه بسبب بعض كتاباته المعادية للسامية.
قامت بعض المنظمات اليهودية بالترويج لفكرة أن أعمال سيلين ومقالاته تحض على الكراهية على أساس الجنس وتعادي السامية.
ونتيجة للضجة التي أثيرت حول سيلين قامت دور النشر في فرنسا بالتوقف عن إعادة طبع أعماله.
وأمام المضايقات التي واجهها سيلين في فرنسا قرر الهرب إلى الدنمارك في نهاية الحرب العالمية الثانية وأدين غيابياً أمام محكمة فرنسية بالتعاون مع الألمان.
قضى سيلين عقوبة بالسجن عاماً في الدنمارك وعاد إلى فرنسا بعد ذلك بسنوات، وتُوفّيَ عام 1961م.
4- محاولات الابتزاز والترهيب للمفكر الفرنسي "باسكال بونيفاس" بسبب آرائه لصالح الفلسطينيين.
في يناير 2018 صدر في فرنسا كتاباً للمفكر الأكاديمي الفرنسي "باسكال بونيفاس"، تحت عنوان "معاد للسامية"، يسرد بالكاتب بالتفصيل وقائع وأحداث جرت معه شخصياً، وتدور كلها حول ما عاناه من ابتزاز ومحاولات ترهيب بتهمة معاداة السامية من طرف اللوبي الصهيوني في فرنسا بسبب موقفه الرافض للانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
من بين محاولات الابتزاز والترهيب التي ذكرها "باسكال بونيفاس":-
- رسائل تهديد بالتصفية الجسدية، والتضييق عليه أكاديمياً، حيث ألغيت له العديد من الندوات والمحاضرات في عدد من الجامعات والمعاهد.
- نجح المتربصون بالمفكر الفرنسي في دفعه إلى الاستقالة من الحزب الاشتراكي.
- نداءات ومطالب بإقالته من العمل وقطع التمويل العمومي عنه.
كل ذلك بالرغم أن باسكال قد كتب في كتابه: "لم يثبت عني يوماً أني تفوهت أو كتبت كلمة أو جملة واحدة توحي بأني معاد للسامية، ولم ترفع ضدي أية دعوى -ولو مرة واحدة- أمام المحاكم في هذا الصدد؛ ورغم ذلك فهذه التهمة الجاهزة تلاحقني منذ نحو عقدين".
وأخيراً أقول:
إن ما حدث مع "فوريسون وجارودي وسيلين وباسكال بونيفاس" وعشرات المؤرخين والمفكرين الفرنسيين غيرهم يفضح المزاعم الفرنسية التي تروج بأن فرنسا هي بلد الحريات، فلقد رأينا ما حدث مع بعض أصحاب الفكر في فرنسا حيث عُلّقوا على صليب الحرية، وذبحوا بسكين الديمقراطية، فقط لأنهم حطموا أحد الأصنام الصهيونية وهو الهولوكوست.