أهمية تحوُّل علوم الاجتماع والسلوك إلى معارف عامة عند الآباء

الرئيسية » بصائر تربوية » أهمية تحوُّل علوم الاجتماع والسلوك إلى معارف عامة عند الآباء
Dad-Reading-Dollarphotoclub_72975783-min

بِكُلِّ تأكيد، لم تعُد حياة الإنسان بسيطة، ولم تعُد حتى يمكن وصفها بالتشابُك، وإنَّما صارت على أكبر قدرٍ من التعقيد، ومُرَكَّبة "Complexity"، بحيث لم يعُد هناك عاملٌ واحد يتحكَّم حتى في حياة الفرد الخاصة، وإنَّما باتت أدق وأكثر الأمور خصوصية وفردانية، تتعرض لعوامل تأثير كثيرة، بما في ذلك ما هو سياسي وما هو تقني، يتعلق بالسياق العام لحياة المجتمع.

بل إنَّ هذا التشابُك والتعقيد وصل إلى درجة أنَّ بعض الأمور التي قد تحدث في بلدٍ يبعُد عنَّا آلاف الكيلومترات، تؤثِّر على حياتنا اليومية بشكل مُباشِر.

وتفرض هكذا أوضاع على الإنسان، الرشيد، مجموعة من الأمور التي يجب عليه الالتزام بها، إذا ما أراد أن يحيا حياةً سليمةً مُنتِجَةً، ويحافظ فيها على كرامته الإنسانية، ويحقق فيها أحلامه وطموحاته.

ومن بين أبرز هذه الأمور، ألا يخضِع حياته وسياقاتها لأي شكلٍ من أشكال العشوائية، وأنْ يتفادى القرارات والتحرُّكات غير المدروسة، بالذات في الأمور المفصلية والفارقة، التي سوف تشكِّل حياته فيما بعد.

ولعل أهم أدوات ذلك، هو العلم. أنْ يتقن الإنسان فهم العلوم ذات الصِّلَة بسياقات حياته وقراراته فيها، وأنْ يتقِن – كذلك – تطبيقها وتطبيق قواعدها بالصورة التي تحقق الكفاءة والفاعلية "Effectiveness and Efficiency" في القرار المُتَّخَذ، والتحرُّك الذي يتم بقدر المستطاع بطبيعة الحال؛ حيث الإنسان العادي غير المتخصِّص لا يستطيع بكل تأكيد الوصول إلى مستوى الخبراء والمتخصِّصين في هذا العلم أو ذاك.

ومن بين أبرز المجالات التي ينبغي على الإنسان العادي تطبيق هذه المبادئ فيها، تربية الأبناء.

فمِن نافل القول، التأكيد على الحقيقة البديهية المتعلقة بأهمية عملية التربية، بمفهومها الشامل، ليس على مستوى التنمية فحسب، وإنما وصولاً إلى مستوى النهضة الحضارية الشاملة لأيِّ مجتمعٍ وأيَّة أُمَّة.

وعندما نتحدَّث عن "المفهوم الشامل" للتربية؛ فإنَّ ذلك يتضمن طائفةً واسعةً من الأمور؛ أكبر من التصوُّر التقليدي للتربية لدى كثيرين في بلداننا ومجتمعاتنا العربية والمسلمة، وهو ذلك المتعلق بالسلوك والأخلاق؛ حيث يتضمن المفهوم الشامل للتربية، بجانب ذلك، التعليم، وتنمية المهارات والقدرات، وتحسين مدركاتهم وقدراتهم العقلية والبدنية.

وهو معنىً قريبٌ للغاية من مفهوم التنمية البشرية، ولكن في السياق المتعلِّق بالتنشئة مُنذ الصِّغَر.

وكذلك يتضمن الأمر الكثير من السياقات خارج نطاق الأسرة؛ حيث يشمل ذلك مؤسسات وسياقات مثل المدرسة والنادي، ومثل جماعات الأقران والجيران، وما اقترب واتصل بذلك من مفاهيم.

وفي المجتمعات الغربية، وتلك التي حققت قدرًا مِن التطوُّر في المجال الاجتماعي؛ فإنَّه، ومنذ دخول الإنسانية مرحلة الثورة الصناعية الرابعة، المرتبطة بالاستخدام المكثَّف للمعلومات والتقنيات الرقمية وما اتصل بذلك، وما قادت إليه من صور التعقيد والتشابُك المشار إليه؛ بات من البديهي أنْ نجد هناك مراكز لها مقار على أرض الواقع، أو منصَّات إلكترونية تقدِّم للوالدَيْن منظومة المعارف، الأساسية أو المُتَخصِّصة عن قواعد الأمومة والأبوة السليمة، وكيفية تربية الأبناء وتنشئتهم بالصورة الصحيحة.

ولقد وصل التطور في هذا المجال؛ لجهة فهم المجتمع العادي لأهمية الإلمام بمثل هذه المعارف، إلى مستويات عميقة بالفعل، سواء فيما يتعلَّق بالحصول على دورات متخصصة في مجال بعينه، مثل التعامُل مع أصحاب الحالات الخاصة، مثل الأطفال المعاقين بصور الإعاقة المختلفة، أو الأطفال العدوانيين، أو فائقي الذكاء، أو ما شابه، أو الذهاب لمرحلة الدراسة ما بعد الجامعية والتخصص في هذه الأمور فيها.

ونتكلَّم هنا عن سلوك يقوم به الأناس العاديين، وليس المُتَخصِّصين أو العاملين في السلك الأكاديمي.

ويبدأ ذلك من مستوى تصحيح الخطأ والتوجيه، وحتى يصل إلى مستوى التهيئة الشاملة للمستقبل، وتشكيل الهوية من خلال التنشئة الفكرية والتلقين الصحيح للحقائق والمعلومات المتعلقة بالسياق المجتمعي الذي وُلِد وينشأ فيه الطفل، ويشمل ذلك الهوية الدينية والقومية والثقافية، وغير ذلك من مستويات الهوية.

وهناك منظومات أساسية مهمة من العلوم في هذا الصدد؛ ينبغي على كُلِّ أبٍ أو أُمٍّ الإلمام بها في هذا الإطار السابق، وهي: علم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السلوكية، بجانب بعض المعارف الطبية الأساسية في حال التعامُل مع بعض الحالات الخاصة.

وهنا – كما جرى الإيماء سريعًا في السطور السالفة – تنبغي الإشارة إلى أنَّ مفهوم الحالات الخاصة أو الـ"Special cases"، لا يتعلق فقط بأصحاب الهِمَم من أبنائنا المعاقين، وإنَّما هو مفهوم أوسع بكثير، ويعني مختلف الحالات من الأطفال، والكبار على حدٍ سواء، الذين هم بحاجةٍ إلى معاملة مختلفة أو "خاصة" عن غيرهم من أقرانهم، لأنهم "مختلفين" عن الأشخاص الطبيعيين؛ صغارًا كانوا أَم كبارًا.

ففائقو الذكاء، يندرجون أسفل تصنيف "الحالات الخاصة"، وكذلك الأطفال العدوانيين كما سبق القول، وأيضًا الأطفال والأشخاص أصحاب النشاط الزائد أو الانطوائيين، وبطبيعة الحال، المُتوحِّدين؛ حيث التَّوَحُّد مُصنَّف على أنَّه أحد صور الإعاقة.

وهذه الأمور، لها الكثير من الجوانب والأعراض البدنية، والتي يتطلَّب التعامُل السليم معها الكثير من المعلومات الطبية، مثل معدلات استهلاك السُّكَّر وضغط الدم، أو كيفية ممارسة تمارين العلاج الطبيعي، وغير ذلك.

وفي الحقيقة، فإنَّ صُوَر الإفادة المتحققة من ذلك الأمر، تفوق حتى المدى القريب المتعلق بتنشئة طفل أو طفلة في أسرةٍ واحدةٍ، وإنَّما يصل الأثر إلى مستويات مجتمعية بعيدة المدى، وذات أهمية كبرى.

فتنشئة الطفل على السلوك السوي، ووفق منظومة من القدرات الجيدة، يُساهِم في تحقيق التنمية، ويحفظ للمجتمع استقراره وأمانَه ، ويحقق الكثير من متطلبات النهوض الحضاري كما تقدَّم.

 

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …