حدثتني في الهاتف باكية تخبرني أنّها فقدت أعزّ صديقاتها فواسيتها وحاولت أن أخفف حزنها ولكنّي بذات الوقت لم أستطع أن أخفي مشاعر الاسستغراب عندي، فسألتها هل هي نفس الصديقة التي كنت تتحدثين عنها بالساعات مستاءة من تصرّفاتها؟ قالت والدموع في عينيها: "نعم، ولكني كنت مخطئة فأنا لم أكن أقدّر هذه الإنسانة الرائعة التي كانت تعاملني كإحدى أخواتها، كيف عميت عيناي عن رؤية روعة هذه الغالية فأنا أتذكر مئات بل آلاف المواقف الرائعة لهذه الإنسانة التي غادرتني بلا عودة".
بصراحة وفي هذا الموقف وبعد هذا الاعتراف، كنت أتمنى أن أقول يا للخسارة كل اعترافاتك بالعرفان جاءت متأخرة لا فائدة منها وما لك إلا الدعاء لهذه الصديقة الوفية والتي لم تعرفي قيمتها وأهميتها في حياتك إلا بعد أن فقدتيها. إن هذه القصة تجعلنا نفكر في أشياء عديدة بل وفي أشخاص كثيرين مرّوا أو ما زالوا في حياتنا ولم نعطهم أيّ اهتمام أو تقدير رغم محبتهم واهتمامهم الكبير بنا.
أحياناً أرى أن الإنسان مخلوق عجيب لا يقدّر الشيء الذي يملكه أو حتى الإنسان الذي يحبه حتى يفقده. لماذا لا نحاول رؤية ما حبانا الله به من نعم كثيرة فنقدّرها؟ لماذا نحتاج أن يغادرنا الشخص ويرحل عنا بعيداً بلا عودة، لنشعر بأهميته في حياتنا ونقدّر ما كان يقوم به من أجلنا؟ لماذا لا نعترف بأن كبرياءنا يمنعنا أحياناً من التعبير عن شعورنا بالمحبة والعرفان لكل من يعطينا الحب والاهتمام؟
إن هذا الوضع ينطبق على الكثيرين ممن هم حولنا سواء كان هذا الشخص أباً أو أماً، أخاً أو أختاً، زوجاً أو زوجة أو حتى صديقاً أو صديقة.
لماذا تعمينا وتشغلنا هذه الحياة عن رؤية أحبائنا والإحساس بهم وبما يكنّوه لنا من محبة ومعزة واحترام؟
كم من أناس رحلوا من حياتنا بعيداً وبكينا على رحيلهم دماً مع أننا لم نكن نحس حتى بوجودهم قبل الرحيل .لماذا لا ننشر ثقافة شكراً؟ لماذا لا ننشر ثقافة التقدير والاحترام؟ لماذا نبخل بنشر المحبة؟ لم لا ننطق كلمة المحبة ونسعد بها من حولنا؟
لم نعتبر قول كلمات المحبة والاحترام للغير نزولاً عن مستوانا العالي؟ لماذا نعتبر كلمة الحب ضعفاً ونقصاً؟ لم لا نشبع أبناءنا وبناتنا حباً فلا يخرجوا خارج الأسرة يفتشون عن حب قد يعرضهم للأخطار العديدة لا سيما وأنّ الوقت الحالي أصبحت به دائرة المعرفة تتسع وتتسع لتصل إلى العالم بأكمله وهذا لا يتتطلب أكثر من جهاز هاتف نقال يمكنهم من التواصل مع الاخرين من العالم الافتراضي المجهول بكل سهولة وبساطة فيقعوا فريسة سهلة للمغرضين حول العالم.
أتمنى أن تنتشر ثقافة المحبة والتقدير والاحترام فيما بيننا لتصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية الاعتيادية، فلا ننتظر حتى نفقد الشخص أو حتى يقع أحباؤنا في مصائد الخادعين طلبا للحب والاهتمام، بل نعبّر عن امتناننا وشكرنا بطرق مباشرة بسيطة خالية من التعقيد، أبسطها قول شكراً.
لنعوّد أنفسنا التعبير عن مشاعرنا وتقدير أحبابنا وإشعارهم بالمحبة والحنان والتقدير، فمن الجميل أن يشعر كلّ منا بأهميته وبتقدير الاخرين له من حوله.
لنعوّد أنفسنا التعبير عن مشاعرنا وتقدير أحبابنا وإشعارهم بالمحبة والحنان والتقدير، فمن الجميل أن يشعر كلّ منا بأهميته وبتقدير الاخرين له من حوله
نصيحتي لنفسي ولك أيها الإنسان أينما كنت، لا تكن بخيلاً في مشاعرك وقل لأمّك أحبك، قلها لوالدك، قلها لزوجتك ولأبنائك وبناتك. قل هذه الكلمة لكل من يستحقها فهي مفتاح لسعادتك وسعادتهم.
رغم أني تحدثت في هذا المقال عن أهمية إعطاء من حولنا الحب والتقدير وإظهار مشاعرنا لهم بوضوح قبل فوات الأوان ورحيلهم عنا أورحيلنا عنهم، إلا أن هذا الموضوع ذكّرني بحديث رسولنا الكريم والذي طلب فيه منّا اغتنام بعض الأمور قبل فواتها لذا أحسست أن علي أن أتناول هذا الحديث لاتّصاله وارتباطه بموضوع المقال بطريقة أو بأخرى، فكما هو علينا اغتنام وجود أحبائنا بيننا لنبيّن لهم قيمتهم وأهميتهم قبل الرحيل، علينا أن نغتنم أموراً فبل فواتها بحسب حديث نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) (رواه الحاكم).
إن الرسول الكريم عليه السلام أوصانا في هذا الحديث الشريف بأن نغتنم شبابنا ونحن بكامل قوتنا فليس هناك من يضمن الشباب والقوة طول العمر، فما علينا إلا أن نستغل هذا الشباب بكل ما هو مفيد ونافع فلا مفرّ لنا من الهرم والشيخوخة وما كنا نستطيع القيام به بسهولة في شبابنا سيأتي يوم ولا نستطيع القيام به لكبر السن، لذا علينا أن نحاول تحقيق أهدافنا وطموحاتنا بلا تسويف أو تأجيل فالعمر يجري ولا يعود.
كذلك يوصينا النبي الكريم عليه السلام بأن نغتنم صحتنا وعافيتنا في عبادة الله عز وجل وفي أعمال الخير ومعونة ومساعدة الآخرين قبل أن تخذلنا صحتنا فما من أحد يضمن الصحة والعافية طول العمر إلا برحمة من الله.
ولنا وقفة صغيرة مع نعمة الصحة والتي لا يشعر بها البعض إلا بعد فقدانها. فمجرد أنك تستطيع أن تخدم نفسك بنفسك ولا تحتاج رعاية الآخرين لك هي في حدّ ذاتها أكبر نعمة من الله فاغتنمها قبل زوالها ولا تنس أن تحمد الله عليها ليلاً ونهاراً.
إنّ نعمة الصحة تحتم علينا أن نهتم بأجسادنا وصحتنا فلا نأكل أو نشرب ما يضرنا ولا نكثر من الطعام زيادة عما نحتاج.
والمسألة الثالثة هي اغتنام الغنى قبل الفقر فهو أمر هام لا بد منه، فالإنسان واجب عليه أن ينفق على نفسه وعلى عائلته دون بخل أو تقتير، كذلك عليه أن يفكر في المحتاجين والفقراء فيمد يد العون والمساعدة لهم ويتصدق عليهم في حدود قدرته وإمكاناته. ولا ينسى أنّنا سنسأل عن مالنا فيما صرفناه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
أما عن وقت الفراغ وهذه الحياة التي أعطانا الله إياها والتي إن انتهت وانقضت تنتهي فرصنا في جمع رصيد عمل وفير يساعدنا في الآخرة، فالشقي هو من حرم من نعمة إدارة الوقت وأمضى يومه بلا أهداف يحققها ، كن حكيماً عاقلا واغتنم وقتك في شيء مفيد، في تحقيق غاية سامية كالجلوس مع العائلة وإعطائهم ما يحتاجون من المحبة والود والنصح والإرشاد، إلاّ أنه يجب عليك أن لا تنسى نفسك وسط هذه الحياة المليئة بالمسؤوليات المتعددة غير المنتهية، بل على العكس، اجعل لنفسك وقتاً للتمتّع بهواية معينة أو بدراسة أمر ما أوبالكتابة أو بحفظ كتاب الله أو أي أمر مشروع يشعرك بأنّك تستغل وقتك بشيء مفيد فتشعر بالسعادة والإنجاز. لا تجعل يومك يغادرك بدون أن تترك بصمة جميلة في حياتك أو في حياة الآخرين.
تأكد أنه سيأتي عليك يوم ستبكي ندماً إن أضعت حياتك هباءً منثوراً، فشعور الندم هو شعور مرير إنه كمثل قول الشاعر ألا ليت الشباب يعود يوما، فهيهات هيهات أن يعود. كن ذكياً واستغل وقتك وحياتك فيما ينفعك فوقتك هو الوعاء الذي تملؤه بما تريد فحاول أن تملأه بكل ما هو مفيد.