تبدأ سورة الشمس بأقسام سبعة متتالية، والمتأمل لهذه الأقسام الواردة في هذه السورة يجد أنها تمثل الكون الذي يألفه الإنسان ويشاهده كل يوم من حوله، فالشمس تشرق كل صباح مؤذنة ببدء النهار بكل ما فيه من صخب وحركة، والقمر يتبعه في المساء مؤذناً ببدء الليل بكل مافيه سكون وهدوء (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) ومعنى (والقمر اذا تلاها) أي جاء بعد الشمس في ظهوره وضوئه، ولعلّ العلم الحديث أضاف لهذه الآية اعجازا آخر، فالقمر تابع للشمس في حركته إذ هو يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس ففي الحقيقة هو تابع للشمس في حركته، كما أنه يعكس ضوء الشمس الساقط عليه فهو تابع لها في نوره أيضا.
ثم جاء القسم بالسماء التي يراها الإنسان فوقه ثم بالأرض تحته والتي يعيش عليها ويسعى فيها (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا).
ليأتي بعد ذلك القسم بنفس هذا الإنسان (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وهنا يأتي السؤال عن مناسبة ذكر الإنسان وهو الجرم والمخلوق الصغير بعد ذكر هذه الأجرام والمخلوقات العظام كالشمس والقمر والسماء والأرض؟
إن ذلك يأتي ليذكر هذا الإنسان أن كل ما حولك في هذا الكون الذي تألفه وتراه كل يوم هو مسخر بأمر الله، خاضع لعظمته وقدرته، فيكون من الأولى بك أيها الإنسان أن تخضع لربّك كما خضع له هذا الكون الفسيح، وأن تسجد له وتسبّح بحمده، كما تفعل سائر المخلوقات، وأن لا تكون نشازاً في هذا النسق الموحد لهذا الكون.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى هو جواب القسم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وهو الحديث عن الهداية والغواية، وأن المفلح من اهتدى، وأن الخاسر من غوى.
وكأن الله يريد منك أن تنقاد له و تخضع له كما هو حال الكون أجمع، ولكنه مع ذلك يريد لهذا الانقياد والخضوع منك أن تكون فيه مختارا لا مكرها أو مجبرا كما هو حال من حولك من المخلوقات التي سبق ذكرها في باقي الأقسام، ولذا أودع فيك من المؤهلات والقدرات كما توحي كلمة (ألهمها) ما يجعلك قادرا على الاختيار واتخاذ القرار بين الفجور والتقوى(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).
ثم تعرض السورة نموذجا لمن طغى وغوى، وهم قوم ثمود (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) ودلالة كلمة (طغواها) أنه برغم جرمك الصغير أمام هذا الكون إلا أنك أيها الإنسان تصرّ على الطغيان، فكسوف في شمس أوخسوف في قمر قادر أن يُنزل بك الخوف والهلع، وزلزلة في أرض أو صاعقة من سماء كفيلة بهلاكك، فعلام التجبر والطغيان؟
ثم تأمل قوله تعالى (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) فرب شقيّ واحد يكفي ليكون سبباً في هلاك أمة بأكملها، اذا لم يؤخذ على يده، ولعل في هذه الآية دعوة لمنع فساد المفسدين والتصدى لهم كي لا يعمّنا الله جميعا بعقابه.
ورغم طغيان الظالمين ستبقى دعوة الحق يردّدها المؤمنون الصادقون، أن إياكم ومحارم الله (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) وقوله (ناقة الله) فيه اشارة إلى ان هذه الناقة كانت آية عظيمة من آيات الله، حيث طلب القوم من نبيّهم ناقة عظيمة تخرج من الصخر أمام أعينهم، فكان ما أرادوا على أن تشرب هي من بئر القوم يوما وهم يشربون يوما، فكانت تعطيهم من اللبن في اليوم الذي لا يشربون فيه ما يكفيهم، غير أن القوم أبوا أن يؤمنوا، لأنهم ما طلبوا هذه الآية إلا تعجيزا، فلما حققها الله لهم أصبح القوم يرون هذه الآية ماثلة أمامهم تذكرهم بقدرة الله كل يوم، فخشوا أن يدخل الناس تباعاً في دين الله فتآمروا على قتلها.
وهكذا المعاندون للحق يستمرون في طغيانهم وكفرهم (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) وحينها ينزل وعد الله ولا يتأخر العذاب عنهم (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا) ويكون هذا العذاب شديداً لأنه بعد الانذار والوعيد، ولأنه من عند الله الذي لا يخشى عواقب الأمورلأنّه من يصرفّها ويقضي بها (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا).