اسم السورة هو المعارج وهي المصاعد والمهابط التي تسلكها الملائكة بين السماوات والأرض حين تنزل بأمرالله، ورغم أن هذا البعد المكاني بين السماء والأرض يقدّر بآلاف السنين (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) إلا أن الملائكة تقطعه بأمر الله في يوم، وهنا يُطوى الزمان والمكان بأمر الله خالق الزمان والمكان.
ولعل ُّذكر مثل هذا الأمر كاستهلال في أول السورة، ليبيّن الله سبحانه وتعالى قدرته المطلقة في تصريف الزمان والمكان إذا قضى بإنزال العذاب على الكافرين، فما أسرع أن يحلّ بهم، وحينها لن يستطيع أن يدفع هذا العذاب أحد كما قال تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ).
كما أن ّالحديث عن تسارع الزمان ونسبيّته في مقدّمة السورة، مناسب للآيات التي جاءت بعدها وتذكر قرب يوم القيامة وأنه ليس ببعيد كما يراه المكذّبون (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) فما تظنونه ملايين السنين من عمر الكون إلى يوم القيامة، ماهو إلا يوم أو بعض يوم بل ربما ساعة من نهار على الحقيقة في عمر الزمان كله، كما يقول الكافرون حين يبعثون يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ).
وبعد الحديث عن المعراج المكاني والزماني يأتي الحديث في السورة عن نوع آخر من المعارج إنه المعراج الروحي، والذي يكون حين يرتقي المسلم إلى مقامات وكمالات العبادة والطاعة، ويترفّع عن أدران الأثام والمعاصي، وأوّل محطات هذا المعراج الروحي هي الصلاة (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وكلمة (دائمون) و (يحافظون) توحي بأنّ من تذوّق حلاوة هذا المعراج، فإنه يداوم عليه ولا يتركه، كما أنه يورث السكينة في قلبه والطمانينة في نفسه فلا يصيبه الهلع والفزع في الضرّاء ولا تسيطر عليه نوازع البخل والأثرة في السراء (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ) وكيف لا تكون الصلاة كذلك وهي العبادة الوحيدة التي فُرضت في السماء ليلة الاسراء والمعراج، ذلك أنها صلة بين العبد الذي هو في الأرض مع ربّه الذي عرشه فوق السماوات، وكأنها عبادة اختزلت الزمان والمكان لتجعلك في مناجاة مباشرة مع ربّك، كما في الحديث الصحيح القدسي الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن اللهَ تعالى يقولُ: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفينِ، نصفُها لي ونصفُها لعبدي ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ: { الحمدُ للهِ ربِّ العالمين } قالَ اللهُ: حمِدني عبدي، وإذا قالَ: { الرحمنُ الرحيمُ } قالَ اللهُ: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ: { مالكِ يومِ الدينِ } قال اللهُ عز وجل: مجّدني عبدي، وفي روايةٍ فوَّضَ إليَّ عبدي، وإذا قالَ: { إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعينُ } قال: فهذه الآيةُ بيني وبين عبدي نصفينِ ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ: { اهدنا الصراطَ المستقيمَ صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالينَ } قال: فهؤلاءِ لعبدي ولعبدي ما سألَ.
وبعد الصلاة يأتي الحديث عن الصدقة والانفاق، وفي هذه العبادة ترفّع عن شهوة حب المال وعلوٌّ عن مشاعر الشحّ والبخل، فيرى المسلم أن للفقير والمسكين حقّاً في ماله (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)
ثم ترفّعٌ عن هتك الأعراض وفاحشة الزنا (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).
ثم علوّ عن وصف الخيانة وشهادة الزور، وحرص على الوفاء بالعهود وحفظ الأمانات (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ).
ومثل هذا العلوّ والارتقاء في مدارج العبادة ومكارم الأخلاق، لا شك أنه يتناسب مع اسم السورة (المعارج)، ويكون جزاء المؤمنين الذين ارتقوا في معالي هذه المعارج الروحية أن يُدخلهم الله الدرجات العالية في الجنّة (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) فهو علوّ في الدنيا وعلوّ في الآخرة.
ثم يأتي المقطع الأخير من السورة ليتحدّث عن أولئك الذين لم يعرفوا ذلك المعراج الروحي ولم يتذوّقوا حلاوة الترقّي فيه، فتراهم نافرين تائهين، لا يعرفون طريقهم، يتردّدون يمينا ويسارا (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ *عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ).
وهم مع ضلالهم وشرودهم، يمنّون أنفسهم أنهم على حق، وأنهم أوّل من يدخل الجنة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) ويأتي الجواب سريعا، كلّا بل مأواهم إلى الجحيم (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) هذا الجحيم وهذا العذاب الذي تحدثت عنه أول السورة (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى).
ثم يتناسق أول السورة مع ختامها، فلما كانوا يستبعدون يوم القيامة ويرونه بعيدا، تعود الآيات في نهاية السورة لتصف مشهد البعث والنشور، فبعد لهوهم ولعبهم في هذه الدنيا يبغتهم الموت ويُبعثون، ويخرجون من قبورهم مسرعين إلى آلهتهم التي تُنصب لهم في أرض المحشر والتي كانوا يعبدونها من دون الله، ليجتمعوا بها ثم يُلقون جميعا في جهنم، وعندها يواقعون مصيرهم المحتوم الذي كانوا ينكرونه في ذلك اليوم الموعود (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
اللهم اجعلنا ممن زكت نفوسهم بطاعتك، وارتقت أرواحهم إلى جنتك... اللهم آمين.