شكلت المرأة الجزائرية عنصراً أساسياً في الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، ووقفت جنباً إلى جانب مع الرجل في تحمل المسؤولية تجاه الثورة وبالتالي كانت المرأة الجزائرية داعماً قوياً للمجاهدين وقد أبلت بلاء حسناً أظهرت من خلاله أنها الوجه الثاني للثورة.
إن نضال المرأة الجزائرية جنباً إلى جنب مع الرجل تسبب في كسر الحصار الذي حاول الاحتلال الفرنسي ضربه على المقاومين وعزلهم عن باقي شرائح المجتمع.
إن سجل المناضلات الجزائريات حافل بالأمثلة، ومن خلال هذا الموضوع سنتناول صفحة واحدة من هذا السجل الحافل، وسنتكلم عن المناضلة "جميلة بو باشا" إحدى الجميلات الثلاثة الذين أرغمن أنف الاحتلال الفرنسي، هي والمناضلة "جميلة بو عزة" والمناضلة "جميلة بو حيرد".
أولاً: المولد والنشأة
ولدت "جميلة بو باشا" في 9 فبراير 1938م في بلدية بولوغين شمال شرق العاصمة الجزائر الجزائرية.
التحقت "جميلة بو باشا" بمدرسة الحي، وفي سن الثامنة انتقلت مع أسرتها إلى بلدية "دالي إبراهيم" الواقعة غرب العاصمة وتبعد عنها 15كم فقط.
تربت "جميلة بو باشا" في عائلة ثورية حيث كان والدها عضواً بارزاً في "حزب الشعب الجزائري"، وكان بيته لا يفرغ من الحفلات التي يتخذها ستاراً لاجتماعات أعضاء الحزب.
ثانياً: المشوار النضالي لـ"جميلة بو باشا"
في سن 17 سنة انخرطت "جميلة بو باشا" في الاتحاد الديمقراطي لحزب البيان الجزائري بزعامة "فرحات عباس"، وكان دورها يتمثل في (توزيع المنشورات، والدعاية للثورة، وحمل السِّلال والقِفاف التي بها القنابل التي سيتم تفجيرها في صفوف جنود الاحتلال الفرنسي، بالإضافة إلى ربط الاتصال بين المجاهدين.
في سنة 1958م التحقت "جميلة بو باشا" بالجبال، وبعد عدة أسابيع قررت العودة إلى العاصمة حيث اندمجت في الصفوف العاملة بالعاصمة في خلايا جبهة التحرير الوطني، وكان دورها هو توزيع الإعانات لعائلات المجاهدين والمساجين والشهداء.
وفي سنة 1959م انضمت "جميلة بو باشا" لجبهة التحرير وكان عمرها حينئذ 21 سنة، وكانت تعرف بين صفوف الفدائيين باسم "خليدة"، وأصبحت المهمة الفدائية لـ"جميلة بو باشا" هي زرع القنابل والمتفجرات في مناطق تواجد جنود الاحتلال الفرنسي.
في فبراير من عام 1960م تم القبض على "جميلة بو باشا" وهي متلبسة بعملية فدائية، ووضعت في السجن العسكري وتعرضت لتعذيب وحشي من قبل الاحتلال.
في سنة 1961م تم الحكم على "جميلة بو باشا" بالإعدام ولكنه تم الافراج عنها بموجب "اتفاقيات ايفيان" في 7 مايو 1962م التي كانت بين القادة الوطنيين الجزائريين وبين قادة الاحتلال الفرنسي بعد أن أدركت فرنسا فشل الحل العسكري في الجزائر، وسمحت هذه الاتفاقيات بإعلان وقف اطلاق النار ووضع حد لحرب الجزائر.
وبعد خروج "جميلة بوباشا" من السجن انضمت إلى أول مجلس وطني للجزائر المستقلة.
ثالثاً: نماذج من صور التعذيب الذي تعرضت لها المناضلة "جميلة بو باشا".
بعد أن تم القبض على "جميلة بو باشا" تم تعذيبها تعذيباً وحشياً بشتى أنواع التعذيب حيث تم تعذيبها صعقاً بالكهرباء، وعوقبت بالضرب وحرق أعقاب السجائر على جسدها العاري، والغطس حتى الاختناق، وتم اغتصابها مرات عديدة.
تروي المناضلة الجزائرية "لويزة إيغيل أحريز" في أحد اللقاءات الصحفية فتقول: "الضرب، السب والشتم، كل هذه الأمور ليست تعذيباً. لكن أكثر ما يهز الجزائري، هو انتهاك حرمته وهتك عرضه، وهم كانوا يدركون تماماً أنها نقطة ضعفنا الوحيدة، لذا كانوا يذلوننا بالحرمة".
إن الاغتصاب بالنسبة للمرأة المسلمة الشريفة هو قمة المعاناة، لذلك كان انتهاك العرض الجزائري هو مخطط في السياسة الاستعمارية الفرنسية، ويعتبر من أخطر الأساليب التي استخدمتها فرنسا للتحطيم النفسي والمعنوي للدولة والشعب معاً.
ومن بين ما تعرضت له المناضلة "جميلة بو باشا" من تعذيب أن قام النقيب "ليجي" بكسر أحد ضلوعها، وكان سبب ذلك أنه عندما سألها النقيب "ليجي" قائلاً:
"لو أعطوك قنبلة، أين كنت ستضعينها؟"،
فأجابته "جميلة بو باشا" قائلة: "سأضعها في مكتبك حتى أضمن بأنني سأتخلص منك نهائياً"، فما كان منه إلا أن طرحها أرضاً وركلها بحذائه مرات عديدة أدت إلى كسر أحد ضلوعها.
تحت هذا التعذيب الوحشي واللاإنساني المستمر اعترفت "جميلة بو باشا" بقيامها بوضع القنبلة الموقوتة في الجامعة في 27 سبتمبر 1959م، فكانت النتيجة أن تم الحكم عليها بالإعدام في 28 يونيو 1961م، بالرغم من أن القنبلة لم يتم تفجيرها.
تروي المناضلة "جميلة بو باشا" فتقول: "في البداية أخذوني إلي فيلا في "الأبيار" بأعالي العاصمة، تعرضت لشتي أنواع التعذيب لمدة (33 يوماً متواصلة) ثم نقلت إلى ثكنة "حسن داي" بشرق ساحل العاصمة، ثم أعادوني إلى "الأبيار"، وبعدها حولت إلى سجن "سركاجي" شمال العاصمة، وقد هددوني بأن يعيدوني إلى "الأبيار" أو "حسين داي" إذا ما تكلمت للمحكمة عن التعذيب.
ثم تستطرد "جميلة بو باشا" فتقول: "وحين اتصلت بمحاميتي 'جيزيل حليمي' أفهمتني أنهم يريدون التخلص مني ويقولون إنها حاولت الفرار. ثم اتصلت بالكاتبة الصحفية "سمون دي بوفوار"، فكانت تلك الضجة الإعلامية.
رابعاً: تدويل قضية "جميلة بو باشا"
قامت المحامية الفرنسية "جزيل حليمي" بالدفاع عن المناضلة "جميلة بو باشا"، وأوصلت قضيتها إلى العالم من خلال مرافعاتها الشهيرة، ومن خلال كتابها الذي كتبته وفضحت فيه آلة التعذيب في الجزائر فتحول الكتاب إلى وثيقة إدانة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر.
بعد أن سمع أحرار العالم بقضية "جميلة بو باشا" وما تعرضت له من تعذيب قامت الكاتبة الفرنسية "سيمون دوبوفوار" بإقامة ندوة صحفية عن "جميلة بو باشا" في منتصف عام 1960م، لتعلن أمام الصحافة العالمية بأن "جميلة بو باشا" قد تم تعذيبها بشراسة، إلى حد أنها أصيبت في عذريتها بأبشع الطرق البربرية وباستخدام مواد صلبة، كما تم تجنيد أحد الخونة الجزائريين خصيصاً لاغتصابها.
خامساً: مظاهر التعاطف الدولي مع المناضلة الجزائرية "جميلة بو باشا"
بعد أن تم تدويل قضية المناضلة "جميلة بو باشا" تعاطف العالم كله معها، وفي مقدمة من تعاطفوا معها (الكاتب الفرنسي "جون بول سارتر"، والصحفية "سيمون دي بوفوار"، والرسام العالمي "بابلو بيكاسو" الذي رسمها في إحدى لوحاته الرائعة، والكاتب :لويس أراغون"، وتطوع عدد كبير من المحامين للدفاع عنها في مقدمتهم "جيزال حليمي"، ووصل الأمر إلى أن تعاطف معها الرئيس الأمريكي "جون كنيدي"، والزعيم الصيني "ماوتسي تونغ"، وغيرهم كثيرين من أحرار العالم في مختلف الدول).
بلغ مقدار إعجاب الرسام العالمي "بابلو بيكاسو" بالمناضلة "جميلة بو باشا" وصلابتها وشجاعتها أن قام برسمها في بورتريه لكتاب "جيزيل حليمي وسيمون دي بوفوار" سنة 1962م، كما اختار "بيكاسو" وجه المناضلة "جميلة بو باشا" ليكون على الصفحة الأولى في مجلة الآداب الفرنسية في 8 فبراير 1962م.
لقد اشتهرت اللوحة التي رسمها "بيكاسو" للمناضلة "جميلة بو باشا" لدرجة أن ثمنها يقدر الآن بـ 400 مليون دولار، حسب المختصين في المجال الفني.
لم يكن الفنان "بيكاسو" وحده هو الذي تعاطف مع المناضلة "جميلة بو باشا"، وإنما تعاطف معها كذلك:
- "روبيرتو ماطا" الذي قام برسم لوحة أسماها "تعذيب جميلة".
- وتعاطف معها الموسيقي "ليجي نونو" حيث خصص لها مساحة مهمة في أغنية "الحياة والحب" تحمل عنوان "جميلة بو باشا".
ومن المؤلفات التي تم تأليفها عن المناضلة "جميلة بو باشا"
- كتاب "جميلة بو باشا" للصحفية "جيزيل حليمي" سنة 1962م.
- وكتاب "جميلة بو باشا المرأة التي ألهمت بيكاسو" للكاتب "خالفة معمري" سنة 2013م.
- وفيلم "من أجل جميلة" للمخرجة "كارولين أوبير" سنة 2011م.
سادساً: زيارة المناضلة "جميلة بو باشا" لإيران
قامت المناضلة "جميلة بو باشا" في أكتوبر 2014م بزيارة لإيران بدعوة من رئيس المؤسسة الإيرانية للإذاعة والتلفزيون "عزة الله ضرغامي".
وتعليقاً على قيامها بزيارة إيران قالت "جميلة بو باشا": "إن الامام الخميني يعد نموذجاً لكل الشعوب التواقة لمقارعة الاستعمار في العالم، كما قالت: "إن الثورة الجزائرية تربطها الكثير من العناصر المماثلة للثورة الإسلامية في إيران.
وقامت المناضلة "جميلة بو باشا" بالثناء على الشعب الإيراني قائلة: "عندما ترون أمريكا تنهال علي واحد بالشتم، فاعلموا أنه غلبها بنظامه وثقافته وشعبه".
كما قالت المناضلة الجزائرية "جميلة بو باشا": "إن الثورة والدين الإسلامي هما من أهم القواسم المشتركة بين إيران والجزائر"، وقالت: "نحن كذلك كالإيرانيين نحب أهل البيت، ولهذا السبب قمت بزيارة مرقد الإمام الرضا".
أخيراً أقول
إن "جميلة بو باشا" لا تزال إلى يومنا هذا على قيد الحياة، لكنها ترفض اللقاءات الصحفية وتعيش بعيدة عن الإعلام والأضواء، بالرغم من أن ذاكرتها تعتبر الصندوق الأسود لأسرار الثورة الجزائرية، وأسرار حقبة تاريخية مفصلية في تاريخ الجزائر والشعب الجزائري.
وأقول
إن جعبة العالم العربي والإسلامي لم تنضب من مثيلات المناضلة "جميلة بو باشا" يقفن ضد الظلم وتمارس ضدهن أبشع أنواع التعذيب غير أن قضاياهن لا تجد الزخم الإعلامي ولا التعاطف الشعبي والدولي المطلوبين.