تشهد البلدان المتقدمة في المجال الاجتماعي والتربوي الكثير من التطورات في آليات تربية وتنشئة الأطفال.
ومن بين أهم التصورات التي وصلت إليها بعض هذه البلدان، وأهمها فنلندا والسويد، والدول الإسكندنافية بشكل عام، والتي تحتل المراكز الأولى على مستوى العالم في مؤشر جودة التعليم وتطوُّره؛ التعليم المنزلي "Homeschooling"، والتربية المنزلية.
وهذه الآلية ليست اختراعًا أو ابتكارًا حديثًا للدرجة التي يتصوَّرها الكثير من عوام الناس وغير المتخصصين؛ حيث إنَّها تُعتبر وسيلةً قديمةً كانت سائدة في أوروبا قبل ظهور منظومات التعليم بصورتها الحديثة، التي تعتمد مفاهيم وآليات، مثل الإلزامية في المواظبة على الحضور المدرسي، أو المناهج المُوحَّدة.
وكانت طبقة الصفوة والنبلاء بالأساس، هم الذين يتبنُّون هذه المنظومة، من أجل تنشئة أطفالهم بصورة تتناسب مع مركز آبائهم والأُسر والعائلات التي ينحدرون منها، والتي كانت إما أُسرًا وعائلاتٍ إقطاعية أو حاكمة، وتعليمهم تعليمًا أفضل من ذلك الذي يتلقاه أبناء العوام.
بل إنَّ جذور هذه الطريقة في التعليم والتنشئة، تعود وفق الكثير من السجلات والكتب التاريخية، إلى عهود ما قبل الميلاد؛ في الحضارات التي سادت أوروبا قديمًا، مثل الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية.
وبمقتضى الحداثة، وحتى التقليد، فإنَّ هذا النمط من التربية والتنشئة، عَرِف طريقه إلى "مجتمعاتنا" العربية والمسلمة، سواء بمفهوم بلداننا العربية والمسلمة، أو بمفهوم مجموعات المهاجرين والأقليات العربية والمسلمة في البلدان الغربية والتي تُطبِّق هذه المفاهيم في التربية والتعليم.
وبالرغمِ من الجاذبية التي يحتويها هذا النموذج من التربية، إلا أنَّ السنوات الأخيرة شهدت ارتكاساتٍ عليه في الدول التي بدأت تطبيقه، في ظل كونها تعتمد آليات الإدارة الحديثة، والتي على رأسها المراجعة المُعمَّقة والمُستَمرَّة لأيَّة سياسات تتبناها الحكومات، أو حتى المجتمعات، وإعادة توجيهها بما يضمن تعظيم المنافع وتقليل الآثار السلبية.
ومن بين أهم الاعتراضات التي ظهرت على هذا النمط من التربية للأطفال والناشئة، نقطة الانعزالية التي يرسِّخُها لديه، بكل ما لذلك من آثارٍ نفسية وسلوكية ومعرفية، مثل الانطوائية، وتعزيز سلوك التعالي على الآخرين من خلال تعظيم إحساس الطفل بالاختلاف والفَرَادَة، بالإضافة إلى فقدان الفوائد التي يحصِّلُها الطفل من خلال التفاعل مع الآخرين، وبالذات في نقطة الخبرات والمعارف، بجانب التَّعرُّف على البيئة المحيطة.
من بين أهم الاعتراضات على التعليم المنزلي نقطة الانعزالية التي يرسِّخُها لدى الطفل، بكل ما لذلك من آثارٍ نفسية وسلوكية ومعرفية، بالإضافة إلى فقدان الفوائد التي يحصِّلُها الطفل من خلال التفاعل مع الآخرين، وبالذات في نقطة الخبرات والمعارف، بجانب التَّعرُّف على البيئة المحيطة
ومن بين أبرز المسارات التي تواجه مثل هذه النوعية من الآثار، جماعات الأقران "Peer groups"، أو جماعات الرفاق "Comrades groups"، التي تُعرَّف على أنَّها جماعة تتكوَّن من عنصرَيْن أو أكثر تتطابق أو تتشابه عقائدهم وأفكارهم وشعور الفرد وإدراكه بأنه يُشبه الآخرين والشعور بالنوع.
ويقول الدكتور عبد القادر الشريف عن هذا النمط من أنماط التفاعل والعلاقات الاجتماعية:
"إذا كانت الأسرة ودور الحضانة ووسائل الإعلام تلعب دورًا مهمًّا في تنشئة الطفل، فإن جماعة الأقران لها أثرها في النمو الاجتماعي بصفة عامة، ومِن حيث تأثيرها في التنشئة الاجتماعية في مرحلة الطفولة بصفة خاصة".
ويضيف أنَّ جماعة الأقران أو جماعة الرفاق تتكون مِن أعضاء يمكن أن يتعامل كلٌّ منهم مع الآخر على أساس ما يصفه بـ"المساومة"، ويقول إن هذا الشكل من أشكال الاجتماع البشري "لها خاصية الضم والاحتواء؛ فهي تضمُّ الأطفال مِن نفس السن تقريبًا، وأحيانا من نفس الجنس، وتتعامل معهم على أساس المكانة المتساوية، كما أن لها خاصية استبعاد الراشدين من ناحية أخرى، ومن أمثلة تلك الجماعات، جماعة اللعب، والأقارب، وزملاء المدرسة" [التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال، ص ص 115:113].
وتذكر مُدوَّنة نشرتها أكاديمية مايكروسوفت، أنَّ جماعة الأقران تلعب عشرة أدوار أساسية في حياة الطفل، وهي:
1. المساهمة في نمو شخصية الطفل؛ إذ توفِّر الجو الاجتماعي الذي يزوده بالأنماط والقيم السلوكية للجماعة.
2. تكوين جانبًا مهمًّا من الاتجاهات والأدوار والقيم الاجتماعية للطفل.
3. دفع الطفل إلى تعديل الكثير من القيم والمعايير والسلوكيات التي اكتسبها من أسرته.
4. منح الفرصة للطفل في التعامل مع أفراد متساويين ومتشابهين معه (كفريق كرة القدم) وبذلك يكون هناك أنماطٌ مِن العلاقات والتعاملات المتساوية الأمر الذي لا تتيحه له الأسرة.
5. مساعدة الطفل في الوصول إلى مستويات الاستقلال الشخصي عن أفراد أسرته.
6. السماح للطفل بتعديل انحرافاته السلوكية من خلال تأثيراتها الأقوى أحيانًا من أي مساقٍ اجتماعي آخر.
7. مساعدة الطفل على الانتقال إلى مرحلة المدرسة؛ حيث في المنزل، تكون رعاية الآباء للأبناء متسلطة، وفي المدرسة يكون سلوكه مُقيَّدًا بواسطة المعلمين والمديرين، ولكن في جماعة الرفاق؛ فإن كل طفل يستطيع أنْ يؤكِّد ذاته بطريقة ربما لا تكون متاحة في أي مكان آخر.
8. من ذلك، أنَّ جماعة الرفاق تسمح للطفل القيام بأدوار اجتماعية جديدة مثل القيادة.
9. تكوين معايير اجتماعية جيدة وتنمية حساسية وعقليته النقدية الطفل نحو بعض المعايير.
10. إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية الأهم لدى للطفل، مثل الحاجة إلى التقدير، والحاجة إلى الاطمئنان والأمان النفسي.
وهو ما عبَّر عنه الشريف بالقول إنَّ جماعة الرفاق "تساعد الطفل على ممارسة الأدوار الاجتماعية وتنمية حساسية الطفل نحو القيم، فتعمل على تكوين اتجاهات الأطفال، وتساعد على الوقوف على معالم البيئة كي تقوم بزيارتها".
ويضيف أنَّها "تعمل على عقد العلاقات الاجتماعية الطيبة بين الأطفال ومشرفيهم وبين الأطفال والبعض، كما تعمل على تنمية فرص الاعتماد على النفس والترويح عن نفس الطفل وتجديد نشاطه، الأمر الذي يؤدي إلى اكتشاف ميوله" [مصدر سابق]
ولكن بطبيعة الحال؛ فإنَّ هذا النمط من المساقات الاجتماعية، ككل أمور الدنيا في واقع الأمر، بحاجة إلى ضوابط بحيث لا يأخذ أفقًا سلبيًّا في تأثيراته على الأطفال.
ومن بين هذه الضوابط، والتي تتناسب مع هويتنا العربية والإسلامية، تعويد الطفل على أداء ما يتصل بهويته كعربيٍّ ومسلمٍ مع رفاقه، مثل العبادات، لاسيما الصلاة وقراءة القرآن الكريم.
كذلك من المهم التأكيد عليه من جانب الأسرة في المنزل/ المُعَلِّم في المدرسة، على قضية الهوية، ولاسيما ما يتعلَّق منها بأنَّه لكل ثقافة طابعها الخاص الذي يميزها، وبالتالي؛ تعويده على أهم قواعد السلوك في المجتمع الأمر الذي يجعل الطفل ملتزمًا بالعادات والتقاليد المقبولة مجتمعيًّا [انظر: سهير كامل أحمد في: التوجيه والإرشاد النفسي، مركز الإسكندرية للكتاب (2002)، وعبد الفتاح أحمد آل الريِّس في: "الانضباط الذاتي لطلاب المدارس ودور المدرسة والأسرة في تحقيقه"، كنوز المعرفة، جدة (2002)]
وبشكل عامٍ ينصح الكثير من التربويين وعلماء الاجتماع، بأنْ يكون دور الأسرة حاضرًا وليس غائبًا لصالح دور جماعات الأقران، ولكن مع الموازنة بين كلا الدورَيْن، بحيث تتحقق المصالح المرتبطة بكلِّ دورٍ منها، ويقلل كلٌّ منهما من الآثار السلبية للآخر، بحيث ينشأ الطفل سويَّ النفس والسلوك، ويرتبط بمختلف المساقات التي يكتسب منها المهارات والمعارف والخبرات اللازمة لتطوره المستقبلي.