شهدت الآونة الأخيرة تسارعًا كبيرًا في وتيرة #التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وذلك من خلال إعلان/ توقيع أربع دولٍ عربيةٍ جديدة عن اعترافها بالكيان، وتطبيع العلاقات معه، وهي الإمارات والبحرين والسودان، وأخيرًا – ويبدو أنه ليس آخرًا للأسف الشديد – المغرب.
وحَفِلَت المشاهد المحيطة بهذه التطورات بالكثير مِن الغرائبيات والأمور المؤسفة، مِن بينها – مثلاً – أنَّ العاهل المغربي، الملك محمد السادس، هو مسؤول لجنة القدس في الجامعة العربية.
أما أسوأ ما في الأمر، هو وضوح مستوى التسوُّل العربي الرسمي لرشاوى أمريكية واضحة يدفعها، وبسخاء عقلية رجل الأعمال/ الكاوبوي الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يريد تقديم أكبر قدرٍ ممكنٍ من الخدمات للكيان الصهيوني، لاعتبارات أيديولوجية لم يُخفِها الرجل حقًّا.
وأيضًا، لأسباب سياسية لا علاقة لها بقضايانا العربية والشرق أوسطية حتى، وإنما تخصه هو، مثل تلغيم الطريق أمام جوزيف بايدن، وتوظيف مكتسبات بعينها في نهاية ولايته الرئاسية الأولى، ترتيبًا لانتخابات 2024م الرئاسية في الولايات المتحدة، كما قال هو نفسه.
فإجراءات ترامب في موضوع التطبيع، هي جزء من كُلٍّ، يشمل خطوات أخرى في عالمنا العربي والإسلامي، ندفع ثمنها لمجرَّد خدمة برنامج حياة ترامب السياسي والإعلامي، وكرجل أعمال، ومن بينها موضوع سحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وفرض المزيد من العقوبات على إيران، وغير ذلك.
المهم، وبمنطق أنَّ كلٌّ يُغَنِّي على ليلاه، ومما يكشف بالفعل تهاوي النظام الإقليمي العربي ومظلته المؤسسية؛ فإنَّ الرشاوى الأمريكية تباينت وفق المصالح القُطْرِيَّة لكُلِّ بلدٍ، مِن دون النظر إلى مصالح الأمن القومي العربية فيما يتعلَّق بوجود الكيان الصهيوني في المنطقة، وأثره على دولها؛ كُلٍّ على حِدَة، وعلى الإقليم ككلٍّ.
ففي الحالة الإماراتية، كان المقابل الأمريكي، صفقة المقاتلات الـ"إف. 35"، وفي حالة السودان، كانت المساومات على رفعها من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وفي حالة المغرب، كان ملف الصحراء الغربية، والاعتراف بتبعيتها للمغرب، وهكذا.
المشهد الأغرب، هو العمق الكبير الذي وصلت إليه العلاقات بين الإمارات والبحرين على وجه الخصوص مع الكيان الصهيوني، بما لم تحققه مصر بعد ما يزيد على أربعين عامًا من التوقيع على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، أو الأردن بعد ربع قرن من اتفاقية "وادي عربة".
ففي غضون شهرَيْن، كانت هناك رحلات طيران وصفقات تبادُل تجاري وأحاديث عن تعاون أمني.
لكن الحدث الأبرز في غرابته، كان شراء الشيخ حمد بن خليفة آل نهيان، أحد أعضاء الأسرة الحاكمة الإماراتية، لنصف أسهم نادي "بيتار القدس".
فهذا النادي، هو أحد أبرز المؤسسات التي تُعبِّر عن المستوطنين الصهاينة في القدس، وحتى الآن لم يعترف حتى الاتحاد الأوروبي، وحتى بريطانيا التي رعت تأسيس دولة الكيان الصهيوني، بشرعية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية والجولان المحتلتَيْن.
فالخطوة الإماراتية إذَن، هي خطوة "تقدمية" حتى بالنسبة للداعمين التقليديين للكيان الصهيوني.
وفي هذه النقطة؛ فإنَّ نادي "بيتار القدس" يُعبِّر عن أسوأ عينة من شرائح المستوطنين في الضفة الغربية، لجهة العنصرية والتطرُّف في المواقف من الفلسطينيين والعرب.
ولا عجب في ذلك؛ فهم ورثة زئيف جابوتنسكي، أحد أهم رموز الحركة الصهيونية، والذي كانت صورته بجوار صورة تيودور هيرتزل في مقر "الكنيست" الصهيوني لحظة إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو 1948م.
ويُعدُّ جابوتنسكي مِن أهم مؤسسي "الصندوق القومي اليهودي"، و"الفيلق اليهودي" الذي شارك في الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م) إلى جانب بريطانيا، وكان أحد العوامل الحاسمة في إصدار بريطانيا لوعد بلفور الشهير، في العام 1917م.
وكان جابوتنسكي يعتقد أنه يجب على اليهود أن يساعدوا البريطانيين للاستيلاء على فلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني، خلال الحرب العالمية الأولى، لإنشاء وطن قومي يهودي، ففكر في تأسيس قوة مسلحة يهودية تجارب إلى جوار الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، فكان "الفيلق اليهودي".
وتولى قيادة الكتيبة رقم (38) في الجيش البريطاني في العام 1917م، ورُقِّي إلى رتبة "ليفتينانت"، وكان من أوائل الجنود الذين عبروا نهر الأردن ضمن القوات البريطانية التي غزت فلسطين في ذلك العام.
وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى, دعا إلى الاستمرار في تجنيد الشباب اليهودي لصالح الكتائب العسكرية بحجة حماية المستوطنات اليهودية في فلسطين.
ولهذا اصطدم مع زعامة الحركة الصهيونية، وعلى رأسها حاييم وايزمان، رئيس "المنظمة الصهيونية العالمية" في حينه؛ حيث اعتبر جابوتنسكي أن توجه الصهيونية لين ومرن أكثر من اللازم!
وعلى إثر عمليات اعتداء على الفلسطينيين شنتها عصابات "الهاجاناه" حديثة النشأة، في أبريل 1920م، على الفلسطينيين في القدس، تم إلقاء القبض عليه وحُكم عليه بالسجن مدة خمسة عشر عامًا مع الأشغال الشاقة في سجن عكا.
أثار الحكم عليه ضجة واسعة في المستوطنات وخارج فلسطين، مما دفع بعض القيادات الصهيونية إلى وضعه على رأس قائمة المرشحين لحزب "أحدوت هاعفودا" (لا يزال الحزب قائمًا في الكيان الصهيوني) استعدادًا لانتخابات جمعية المندوبين الأولى (الأب الشرعي لـ"الكنيست" الحالي).
وتحت وطأة هذه الضغوط، أُفرج عنه من السجن في صيف العام 1920م، بعفو عام من سلطات الاحتلال البريطاني، وتقرب من وايزمان الذي ضمه إلى الإدارة الصهيونية العامة، وكان من بين الموافقين على التنازل عن المطالبة بالأردن، قبل اصدار وزير المستعمرات البريطاني في حينه، ونستون تشرشل للكتاب الأبيض البريطاني الأول، في العام 1922م.
بعد أن أصبح عضوًا في اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية العالمية، انشق عن المنظمة في العام 1923م، بعد خلاف معها وأسس حركة "بيتار" في نفس العام، ثم أسس حزب الصهيونية التصحيحية عام 1925م، والذي يُعتبر أحد أهم أحزاب اليمين الصهيوني المطالب بإنشاء دولة يهودية تمتد بين دجلة والفرات أو ما يُعرَف بـ"إسرائيل الكبرى".
جابوتنسكي مات في العام 1940م، أي قبل قيام دولة الكيان الصهيوني، ولكنَّه تَرَك تراثًا هائلاً وجد روافده في اليمين الصهيوني الحالي، من خلال حركة "حيروت" أولاً، والتي اندمج معها أكثر من حزبٍ وحركةٍ يمينيةٍ لكي يصنعا تكتل "الليكود" الحالي!
ولذلك يمكن فهم – على الأقل – سبب اعتراض أعضاء النادي وعددٍ من المستوطنين الصهاينة في القدس المحتلة على شراء أحد أعضاء الأسرة الحاكمة الإماراتية لنصف أسهم النادي، الذي لا يضم أي لاعب من عرب الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948م، ولكن من غير المفهوم فعلاً سبب إقدام الشيخ حمد بن خليفة آل نهيان على شراء أسهم هذا النادي بالذات، بينما هو ينكر على الفلسطينيين وجودهم.
وهذا يتناقض حتى مع المبررات التي تطرحها الحكومة الإماراتية للتطبيع مع الكيان الصهيوني؛ حيث أعلنت أبوظبي أكثر من مرَّة أنَّه من بين أبرز أهدافها من التطبيع، هو الحفاظ على الحقوق الفلسطينية، ومِن بين تفاصيل ذلك التي أعلنتها الحكومة الإماراتية، وقف الخطط الصهيونية لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة، بينما المال الإماراتي يتم استثماره في أندية المستوطنات!!
كيف يدعم ذلك الحقوق الفلسطينية وحل الدولتَيْن؟!.. لا أحد يدري كيف ذلك، وربما على الحكومة الإماراتية بالفعل توضيحه، ولو من باب عدم الوقوع في التناقض مع الذات بعد الوقوع في خطيئة التطبيع والاعتراف بالعدو الصهيوني!!