بين يدي الذكرى الـ "33" لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" المجيدة، لا نملك إلا أن نوجه التحية العطرة لأرواح شهداء شعبنا وحركتنا العظام، وعلى رأسهم الشهيد المؤسس الإمام أحمد ياسين، وكل جرحانا البواسل وكل أسرانا البواسل في سجون الاحتلال، ولكل طفل وشيخ وامرأة وشاب من أبناء شعبنا القابضين على جمرتي الدين والوطن في ظل عواصف المحن والتحديات التي تتربص بهم دوائر الاستهداف صباح مساء.
وابتداء، لا بد من وقفة هامة تتناول أبرز المحطات التاريخية التي مرت بها هذه الحركة المجاهدة التي غيرت وجه القضية الفلسطينية، وشكلت تحولا فارقا في مسار العمل الوطني الفلسطيني، ونقلة نوعية في مواجهة الاحتلال الصهيوني ومشاريعه التصفوية ومخططاته العنصرية.
لسنا اليوم في معرض سرد الإنجازات الكبرى التي حققتها حركة حماس منذ انطلاقتها المباركة وحتى اليوم على مختلف الأصعدة والمجالات، العسكرية والسياسية والمجتمعية والتربوية والثقافية والجماهيرية، فذلك أمر يدركه الجميع ولا يشكك فيه أحد سوى موتور حاقد أو أبله جاهل، لكننا أحوج ما نكون اليوم إلى بسط رؤية ثاقبة تستشرف آفاق المستقبل وتعمد إلى ملامسة أهم القضايا الحيوية التي تتعلق بمستقبل شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية في ضوء التحديات الخطيرة التي تتقاطر علينا من كل حدب وصوب، ووسط مشاريع التصفية التي تحاك فصولها السوداء في أروقة ودهاليز العديد من العواصم الإقليمية والدولية، وعلى رأسها صفقة القرن وموجة التطبيع الخيانية التي سقط في أوحالها بعض الأنظمة العربية في تناقض سافر مع إرادة وتوجهات شعوبها وانتهاك خطير لقيم وثوابت وعقيدة ومبادئ وإجماع الأمة.
أجنحة ثلاث
وفي عنفوان انطلاقتها، وخوضها عباب بحر التحديات المتعاظمة نحو توفير مستقبل أفضل لشعبها، فإن حركة حماس تحلق بثلاث أجنحة قوية في فضاء الوطن تشكل محور عملها الجهادي وفعلها الوطني وسياستها الداخلية والخارجية، هي جناح العمل العسكري وجناح العمل الوطني والجماهيري وجناح العمل السياسي الخارجي، وتبذل قصارى جهدها من أجل تعزيزها وتقويتها بما يعود على شعبنا وقضيتنا بالخير العميم والمصالح الكبرى.
المستوى الأمني والعسكري
على المستوى العسكري، لا ريب أن التطور العسكري لقوى المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، على مستوى التخطيط والتنفيذ من جهة، ومستوى البنية والقدرات من جهة أخرى، يشكل الوسيلة الوحيدة للدفاع عن شعبنا الفلسطيني ومقدراته الوطنية، والضمانة الأهم التي يمتلكها في مواجهة الاحتلال وعدوانه المستمر ومشاريعه الاستيطانية ومخططاته العنصرية، والكنز الاستراتيجي الذي يذيب أمامه كل المؤامرات والتحديات ويشق طريقه بكل إرادة وعزم ومضاء نحو آفاق المستقبل الميمون حيث الاستقلال والتحرير الموعود بإذن الله.
إن الحقيقة الأهم التي لا يختلف عليها اثنان أن حركة حماس أضحت اليوم رقما صعبا في المعادلة الفلسطينية والإقليمية والدولية، وأن قدرتها على تجاوز مرحلة الحصار والضرب والتهميش والاحتواء قد أجبر الإعداء وصناع القرار الإقليمي والدولي على إعادة حساباتهم والتفكير مليا في التعامل معها، بما يتناسب مع حضورها ووزنها وثقلها الكبير على الساحة الوطنية الفلسطينية.
ولعل الضربة الأمنية والاستخبارية التي تلقاها الكيان الصهيوني في عملية "حد السيف" قبل ما يزيد عن عامين، والعمليات الأمنية والاستخبارية الأخرى التي جرى الكشف عن حيثياتها خلال العام الأخير، تعبر عن مستوى الوعي العميق والتطور الكبير الذي بلغته حركة حماس على المستوى العسكري والأمني والاستخباري، وهو أمر له ما بعده من تبعات وتداعيات مستقبلية في سياق توفير الحماية اللازمة لشعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وتفعيل برنامج التحرر الوطني لاسترداد الأرض والمقدسات بإذن الله.
لقد أثبتت حركة حماس قدرتها الأكيدة على حماية ظهر المقاومة وقدمت مزيدًا من الأدلة الدامغة على قوة مسيرة إعدادها العسكري والأمني والاستخباري، كأساس متين وأرضية قوية تراكم المزيد من الإنجازات العسكرية والأمنية والاستخبارية يوما بعد يوم والتي حققت توازن الرعب مع العدو الصهيوني.
المستوى الوطني
على المستوى الوطني، تصدت حركة حماس لحمل الأمانة والمسؤولية الوطنية تجاه شعبها بعد أن نخر الفساد كافة مناحي السلطة والنظام السياسي الفلسطيني، وتمكنت من إيقاف حالة التدهور التي أصابت قضيتنا الوطنية نتيجة الارتهان لأوسلو والتعاون الأمني مع الاحتلال والتبعية الاقتصادية التي جعلت من السلطة سلطة بلا سيادة، وهيكلا سياسيا فارغ المحتوى بلا مضمون وطني حقيقي؛ وقد أبدت حماس مرونة كبيرة من أجل وحدة الصف الفلسطيني.
وبالرغم من الحصار الشرس الذي ضرب أطنابه في مختلف مناحي الحياة في القطاع، فإن الحركة تمكنت من تدشين إدارة ونموذج حكومي جيد عمل على رعاية مصالح أبناء شعبنا، وتقديم الخدمات لهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا زال ينحت في الصخر ويتحدى العواصف العاتية دون أن ينكسر أو يستسلم أو يلين، في ضوء رقابة فاعلة وعمل برلماني دؤوب يمارسه المجلس التشريعي بهدف ضبط الأداء وتقويم السلوكيات وتكييف العمل الرسمي وفق مقتضيات النظام والقانون.
الحاضنة الشعبية
ولا زالت الحركة تحرص بكل ما أوتيت من قوة على توطيد عرى علاقاتها الداخلية مع أبناء شعبها وتعمل على تعزيز اللحمة مع الجماهير الفلسطينية، عبر حل المشكلات وتفكيك المظالم وتحسس آمال وآلام وهموم المواطنين وتقديم المساعدة والخدمات الممكنة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وقد أبلت حماس وحكومتها بلاء حسنا في مضمار مواجهة جائحة كورونا، وسخرت كافة قدراتها وإمكانياتها المالية والطبية واللوجستية من أجل تجاوز الجائحة والتخفيف من آثارها على أبناء شعبنا، ولا زالت الأيام تشهد على الجهد العظيم التي تبذله خلية الأزمة ولجان الطوارئ المختلفة والطواقم الصحية والأمنية والحركية الذين يصلون الليل بالنهار من أجل تقليل الضرر وتخفيف وطأة الوباء على أبناء شعبنا والخروج من هذه المرحلة بأقل الخسائر بإذن الله، وحفظ أرواح أبناء شعبنا كي يكونوا ذخرا دائما وقوة ضاربة في مواجهة الاحتلال ومشوار البناء الوطني.
العلاقات الخارجية
وفي إطار علاقاتها الداخلية مع مكونات العمل الوطني، فإننا نرى في المواقف والسلوكيات التي اتخذتها الحركة، وخصوصا على مستوى التمسك بأصول وقواعد الشراكة الوطنية والتنسيق المتبادل في كافة الشؤون الوطنية، والذي تجسد بأوضح صورة في النموذج الخاص بالهيئة القيادية لمسيرات العودة، وألوان التنسيق السياسي والمجتمعي الرفيع الذي يشمل كافة الفصائل الفلسطينية والقوى المجتمعية والشرائح الشعبية، فضلا عن تفاهمات إسطنبول الأخيرة في تركيا التي تنكرت لها حركة فتح- نرى في ذلك حالة إلهام وطنية يفترض أن تستثمرها السلطة الفلسطينية وحركة فتح تجاه إعادة ترتيب البيت الوطني الفلسطيني والمبادرة الحية المتجددة تجاه تحقيق المصالحة وتعزيز التوافق الداخلي وبناء الوحدة الوطنية وفقا لمقتضيات الشراكة الكاملة والعمل الوطني المشترك.
وامتدادا لروح التلاحم والتعاضد التي كرستها حماس في أوساط شعبنا، فقد عززت الحركة روح المقاومة والكفاح وإعادة الثقة في نفوس الأمة، وبثت الأمل في الأجيال بأن الانتصار على الصهاينة أمرا ممكنا وقابلا للتحقيق إذا عادت الأمة إلى إسلامها وعقيدتها، وشاركت في معركة التحرير.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية، فإن تمسك الحركة بمواقفها وإصرارها على الدفاع عن حقوق وثوابت شعبها وعدم خضوعها لمنطق المساومة والابتزاز، قد أسهم في تصدع جبهة الحصار الدولي، وأحدث كوّة في جدار التآمر الدولي على شعبنا وقضيتنا، ففي كل يوم يزداد التأييد والتحشيد الخارجي لصالح قضيتنا العادلة التي ترى فيها كثير من الدول والشعوب نموذجا للمظلومية التاريخية، وهذا ما يشير إلى تراجع دولي ملحوظ بفعل ثبات موقف الحركة وعدم خضوعها لمنطق الابتزاز والترهيب، وما القرارات التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح فلسطين، وخصوصا فيما يتعلق بقضية اللاجئين قبل أيام، عنا ببعيد.
ولعل العمل الدبلوماسي الذي مارسته الحركة على مدار السنوات الماضية يشكل برهانا على قدرة الحركة على العمل السياسي في الساحات الخارجية، ونسج العلاقات السياسية مع دول الإقليم والمنطقة، ودليلا جديدا على انفتاح الحركة على ساحة العمل السياسي الخارجي واستعداد دول وقوى سياسية، فاعلة ومؤثرة، في المنطقة على التعاطي مع الحركة بوصفها قوة مقرّرة على المستوى الفلسطيني، وحالة سياسية قوية يصعب تطويعها وإخضاعها لمنطق التدجين أو الابتزاز.
إن مؤشرات الواقع الراهن تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن حماس قد تجاوزت النطاقين المحلي والإقليمي صوب النطاق الدولي، إذ أن قدرة الحركة على بناء علاقات واضحة ومتميزة مع العديد من الدول على قاعدة الاحترام المتبادل، ونجاحها في تجاوز جزء لا يستهان به من الحصار المضروب عليها دوليا، والاستمرار في إدارة الشأن الوطني والحياتي في قطاع غزة رغم كل الألم والمعاناة، تشكل انتصارا سياسيا لحركة حماس في ظل المؤامرات التي تحاول حرفها عن مسارها وأهدافها، وآخرها مؤامرة صفقة القرن وموجة التطبيع، من جهة، وتعطي إشارة قوية إلى مدى الأهمية التي تنظر بها الكثير من الدول لحركة حماس ودورها المحوري فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى.
رفض التطبيع
وبهذه المناسبة المباركة فإننا نؤكد أن السقوط المريع لبعض الأنظمة العربية في أوحال التطبيع الآسنة، وتحالفها المشين مع الصهاينة، وتماهيها مع مواقف وسياسات الكيان الصهيوني، وبيعها للقدس وفلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية بثمن بخس، لن يغير من حقائق التاريخ والجغرافيا شيئا، ولن يشكل أكثرا من حبر على ورق، فقد تجاوز شعبنا العظيم ومقاومته الباسلة الكثير
من المحن والخطوب في الماضي، وسيتجاوز كل التحديات الراهنة بإذن الله، وستفشل صفقة القرن، وسيفشل كل سدنتها وأربابها المجرمين، وستبقى راية شعبنا الأبي وحقوقه وثوابته الوطنية غير القابلة للقسمة أو التجزئة أو التصرف بإذن الله، خفاقة عالية في سماء الأمة والعالم أجمع، لا يضيرها تفريط المفرطين أو تخاذل المتخاذلين.
وفي الختام.. ينبغي التأكيد أن المشروع الذي تحمله حركة حماس ليس مشروعا حزبيا أو فصائليا كما يحلو لبعض الخصوم القول، وإنما مشروع وطني شامل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يعالج القضايا الوطنية الداخلية كما الخارجية على حد سواء، ويعمد إلى ملامسة هموم أبناء شعبنا في مختلف المجالات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والثقافية والفكرية، في الوقت الذي يفتح الآفاق وينسج دروب العلاقات السياسية مع الخارج، في إطار حاضنة وطنية بالغة العمق والشمول يلتئم في ظلالها كل أبناء ومكونات شعبنا، وتستحث الخطى بشكل واثق نحو إنفاذ برنامج التحرير والعودة والاستقلال بإذن الله.
" ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا"
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- المركز الفلسطيني للإعلام