درس في الصبر من أم نبي الله موسى

الرئيسية » خواطر تربوية » درس في الصبر من أم نبي الله موسى
quran

ألهم الله تعالى أمَّ نبيِّ الله موسى عليه السلام، إنْ هي خشيَت عليه من بطش فرعونَ وجُنده؛ أن تضعه في التابوت ثم تلقيَه في اليمّ!

فأيُّ فؤادٍ يحتملُ هذا المشهدَ الفظيع؟! وأيُّ يدٍ تملك أن تلقيَ بفلذة كبدِها إلى قعر البحر؟! وأيُّ عين تطيق النظر إلى طفل رضيع تحوطه المياه من الجهات الأربع، وتقذف به إلى المصير المجهول؟!

ها هي أمّه أرحم الخلق به؛ تلفّه بخرقة صغيرة وتضعه في التابوت، وتنزلُه الهوينى إلى سطح البحر، وأمواج البحر يجرُّ بعضُها بعضاً في شوقٍ إلى احتضان الطفل الذي سيصبحُ نبيّاً يوماً من الدهر، والأمُّ تخشى على رضيعها من البلَل.. ولكنها استودعته الله، والله يرحم.. وفرعون لا يرحم.

إنه المشهدُ الأشدُّ إيلاماً.. حيث تفقد الأمُّ ولدَها من غير أن تعرفَ مصيرَه، أو تسمعَ شيئاً ولو يسيراً من أخباره.

وكأنّي أنظرُ إليها جالسةً بفناء بيتها المكلوم، تشمُّ رائحة طفلها في شيء من آثاره، وترى طيفه الجميل بين يديها، وتستمتع ولو بسماع ألحان صدى بكائه الحزين..

إنها تستذكرُ أياماً يسيرةً عاشتها مع طفلها الرضيع.. ربما لا تذكرُ إلا صوتَ نشيجه، أو تقاطيع وجهه التي لم تكتمل.. فخشيتها من الطغاة لم تدَع لها مجالاً لأكثر من ذلك.

مرّت الأيام على أم موسى كالسنين الطوال، وصورة طفلها لا تفارق فؤادَها وعينيها، والحزنُ يخطّ على خدّيها أخاديد الأسى، ويرسمُ على محيّاها صورة امرأة هدّتها لوعة الفراق، وحطمتها مرارة الأحزان، ولكنّها تُسلّي نفسها بـ"إنّا رادّوه إليكِ وجاعلوهُ من المرسلين".

تسأل نفسها بين الحين والآخر: لماذا ألقيتُ ولدي في اليمّ؟ وإلى أين يصير؟ وكيف يعود؟ ومتى؟ ومن سيحميه إذا عاد؟ ولكنها تستغفر كلّما تذكّرت "إنّا رادّوه إليكِ".

في غمرة هذه الأحزان والأشجان، وفؤاد أمِّ موسى يتأرجح بين الألم والصبر؛ وصلتها الأخبار عن ولدها الذي تتحرّق شوقاً إلى سماع أي شيء عنه، وما أن كادت تمسك بزمام ابتسامة متردّدة تكاد ترتسم على شفتيها؛ حتى أفلتت منها كلمح البصر؛ حيث إنها علمت أن ولدها (موسى) استقرّ في بيت قاتل الأولاد (فرعون) الذي ألقت طفلَها في اليمِّ خشيةً عليه منه.

أيُّ ابتلاءٍ هذا الذي حاصر هذه المرأة المسكينة من كل الجهات؟! وأيُّ امرأة هذه التي تصبر على مصابٍ يخرّ لأجله كثيرٌ من عتاولة الرجال؟!

ولكن.. رغم أن الله أوحى إليها - بإلهامٍ أو رؤيا أو إخبار مَلَك (على اختلاف بين المفسِّرين) - أنْ لا تخافي "ولا تحزني إنا رادّوه إليكِ وجاعلوه من المرسلين".. إلا أن فؤادها أصبح فارغاً.. لا شيء فيه من أمر الدنيا إلا ذكر موسى.. حزناً عليه, وفَرَقاً على فِراقه.. قال سعيد بن جبير: (فارغاً: والهاً، كادت تقول: واإبناه؛ من شدّة الجزع).. حتى إن خوفَها عليه كاد يغريها أن تعترف بما صنعت، وتُظهِرَ أمر ولدِها لفرعون.. ولكنّ الله ربطَ على قلبِها بالصبرِ واليقين "إن كادت لَتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكونَ من المؤمنين".

إنّ من يُسْلِمُ أمرَه لله سبحانه في بداية الأمر، لو ضعفَ اليقينُ في قلبِه شيئاً يسيراً؛ فإن من كرم الله عليه أنه - سبحانه - لا يتخلّى عنه البتة، ولكنه - جلّ شأنه - إذا أحبَّ عبداً ابتلاه، وحلقات الابتلاء لا بدّ أن تكتمل حتى يأتيَ الفرج ، والموفَّق من يصبرُ إلى نهاية الساعة الأخيرة، حيث يرفع الله البلاء عنه إن استعصم بالدعاء والتوكل واليقين، ويردّ إليه ما فقد، "فرددناه إلى أمِّه كي تقرَّ عينُها ولا تحزن ولتعلمَ أن وعد الله حقّ ولكنّ أكثرهم لا يعلمون".

الخلق عيالُ الله، والله أرحمُ بهم منهم لأنفسهم، وهو سبحانه الذي يحكم ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، وما هذه الدنيا إلا دار ابتلاء واختبار، فمن فقد محبوبه فليتجلّد بالصبر، لعلّ الله يكرمه بعودة من يحب

الخلق عيالُ الله، والله أرحمُ بهم منهم لأنفسهم، وهو سبحانه الذي يحكم ويختار، وكل شيء عنده بمقدار، وما هذه الدنيا إلا دار ابتلاء واختبار، فمن فقد محبوبه فليتجلّد بالصبر، لعلّ الله يكرمه بعودة من يحب..

وإذا لم يمنّ الله عليه بلقائه في الدنيا لأن حلقات الابتلاء لم تكتمل بعد؛ فليصبر أيضاً وليحتسب، فلا بد أن يُبرد الصبرُ حرَّ قلبه على فراق محبوبه، ويمنحه ثباتاً يضاهي ثبات الجبال.. على عكس حاله إنْ جزع ولم يصبر، فإنه حينئذ كمن يصب الزيت في النار المشتعلة في فؤاده المكلوم، ويتبع خطوات الشيطان التي ستأخذه من الجزع إلى التسخط إلى اليأس والقنوط، لتقوده بعد ذلك إلى الكفر والجحود، والعياذ بالله تعالى.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب وصحفي في جريدة "السبيل" الأردنية، باحث في شؤون الحركات الإسلامية.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …