إن كل الأقوال البراقة الخادعة والعبارات المُضللة والمزاعم الباطلة حول فرنسا جعلت كثيرين يتوقون لزيارة فرنسا لرؤية ما يسمعون من أساطير عن فرنسا، بل وقام كثيرون بالهجرة إلى فرنسا وبذلوا جهوداً مُضنية وقدموا تنازلات لا حصر لها من أجل الحصول على الجنسية الفرنسية.
إن كل من انخدعوا بكل ما سبق من عبارات وشعارات ما إن وصلوا إلى فرنسا حتى صُدِموا صدمة الشاب القوي الوسيم ليلة زفافه، حين اكتشف أن عروسه عجوز شمطاء هتماء بلهاء قد غرَّرت به بالمساحيق وأوقعته في حبال شَرَكِهَا بالتصابي والدلال.
في السطور القليلة القادمة سنلقي الضوء على الداخل الفرنسي وما فيه من انتهاك لحقوق الإنسان وقمع للحريات، مع التنبيه على أن ما سنلقي عليه الضوء ما هو إلا قليل من كثير، وغيض من فيض المستنقع الآسن الذي انخدع به من انطلى عليهم ترويج السَّحرة البطلة.
أولاً: تقييد حرية العقيدة وانتهاك حرية التعبير عن الرأي وحقوق الإنسان.
1- الرئيس الفرنسي ساركوزي يُعلن أن النقاب ليس رمزاً دينياً
اعتبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن النقاب ليس رمزاً دينياً، لكنه رمز لإذلال المرأة، وقال: "إن البُرقع غير مُرحّب به في أراضي الجمهورية الفرنسية، ولا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة، هذه ليست رؤية الجمهورية الفرنسية لكرامة المرأة".
كما انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش الحظر المفروض في فرنسا منذ 2010 على ارتداء وإظهار الرموز الدينية في الأماكن العامة والحكومية، وتعدّ المنظمة الفتيات المسلمات هم أكثر فئة تتأثر بهذا القرار مطلقة على قرار الحظر "انتهاك للحريات الدينية" و"مخالفة للقانون الدولي" فيما يتعلق بالحريات الدينية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لو افترضنا جدلاً أن رأي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي صحيح، وأن النقاب ليس رمزاً دينياً كما يزعم..
فماذا عن الحرية الشخصية؟
وماذا عن احترام تقاليد الآخر وخصوصياته؟
ثم ماذا سيكون رد فعل فرنسا لو أن دولة إسلامية عاملت النساء الفرنسيات في بلادها بالمثل وقامت بمنعهن من كشف رؤوسهن ووجهوهن، واعتبرت أن هذا ضد عفة المرأة، وضد تقاليد وأعراف المجتمع ...الخ.
2- تجاوزات فرنسا بشأن الحريات وحقوق الإنسان
في نوفمبر 2017م قامت فرنسا باستبدال ما يُسمى بـ "حالة الطوارئ" بقانون أمني جديد وهو "قانون مكافحة الإرهاب" حيث يسمح هذا القانون للشرطة بأن تقوم بتفتيش الممتلكات والتنصت الإلكتروني وإغلاق المساجد... الخ، مما جعل بعض المنظمات الحقوقية تقول أن "فرنسا أصبحت تدمن حالة الطوارئ لدرجة أنها تدخل العديد من هذه الإجراءات التعسفية في القانون العادي"، كما قال مرصد حقوق الإنسان في فرنسا أنه "يخشى انتهاك حقوق المسلمين".
كما قامت السلطات الفرنسية بفرض قيود على الحق في حرية التجمع السلمي، وحرية التظاهر، وأفرطت في استخدام القوة والقسوة ضد المتظاهرين أصحاب "السترات الصفراء" مما حوَّل المظاهرات السلمية من قبل المواطنين إلى مواجهات دامية مع الشرطة نتج عنها حدوث إصابات بالغة من الطرفين.
ونتيجة للإفراط في استخدام العنف ضد المتظاهرين فقد ما لا يقل عن 25 متظاهراً إحدى أعينهم، وفقد خمسة متظاهرين يداً.
كما نتج عن الممارسات القمعية من قبل الشرطة الفرنسية ضد المتظاهرين أن أصيب الآلاف من المحتجين، وتعرض مراقبو حقوق الإنسان، والصحفيون المستقلون، والنشطاء للإصابة والمضايقات والتهديد بالاعتقال من جانب الشرطة، وغير ذلك من الانتهاكات التي تتعارض مع ما يتشدق به دعاة الحرية واحترام حقوق الإنسان في فرنسا.
3- قوانين غامضة تستهدف الجميع
يقول "ماركو بيروليني"، الباحث المعني في شؤون أوروبا: "إن القيود غير المتناسبة على الاحتجاجات في فرنسا تشكل استمراراً لنمط مُقلق يتعرض فيه المحتجون السلميون للاعتداء من قِبَل الشرطة والنظام القضائي. وعندما يتم احتجاز الناس بسبب إطلاق البالونات أو حمل لافتات، فإن هذا يخلف تأثيراً صادماً للغاية على الاحتجاجات المشروعة".
يُذكر أنه في العامين الماضيين تمت إدانة عشرات الآلاف من الفرنسيين بموجب قوانين غامضة ومطاطة تشمل:-
- تجريم ازدراء الموظفين العموميين.
- المحاكمة بزعم المشاركة في جماعة بهدف ارتكاب أعمال عنف.
- المحاكمة بسبب تنظيم احتجاج دون الامتثال لمتطلبات الإشعار.
- وغير ذلك من التهم الفضفاضة، بل والهلامية التي يمكن تأويلها وتطويعها لخدمة السلطات.
4- تطبيق التدابير الاحترازية بحجة مكافحة الإرهاب
في عامي 2018 و 2019م قام وزير الداخلية الفرنسي بإصدار العديد من الإجراءات التي من شأنها تقييد حرية المواطنين، من بين هذه الإجراءات منع الأشخاص من مغادرة مدينة محددة، وإلزامهم بالحضور إلى مقر الشرطة يومياً، ومنعهم من الاتصال بأشخاص معينين، كل ذلك بحجة حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب.
5- انتهاك حق الحرية في الإنجاب للنساء الفرنسيات
قامت الحكومة الفرنسية بتقديم مشروع قانون للبرلمان يعطي جميع النساء حق الحصول على علاج التلقيح الصناعي بصرف النظر عن كون المرأة متزوجة أم غير متزوجة أو مثلية.
وافق مجلس الشيوخ الفرنسي على مشروع القانون الجديد الذي من شأنه أن يسمح للنساء العازبات والأزواج المثليات بالوصول إلى التلقيح الصناعي، وتعد هذه الخطوة هي أول خطوات الإصلاح الاجتماعي الذي وضعها إيمانويل ماكرون في برنامجه الرئاسي.
إن مثل هذه القوانين كل هدفها هو جعل فرنسا أكثر ليبرالية من الناحية الاجتماعية حيث يقول زعيم الحزب الاشتراكي، السناتور "ديفيد أسولين"، "ما تم الاعتراف به للأزواج من جنسين مختلفين يجب الاعتراف به للأزواج المثليين".
6- تقديم تعويضات لضحايا الانتهاكات الجنسية داخل الكنيسة
في نوفمبر 2019م وافق 120 من أساقفة فرنسا في اجتماعهم الذي يعقد كل عامين، على إنشاء صندوق لتقديم تعويضات مالية للأشخاص الذين تعرضوا لاعتداءات جنسية داخل الكنيسة. وقال رئيس أساقفة رانس، "إريك دي مولان بوفورت"، إن التعويضات ستكون بمثابة اعتراف بـ "الصمت أو الإهمال أو اللامبالاة أو عدم رد الفعل أو القرارات السيئة"، التي يواجها ضحايا القساوسة.
7- الانتهاكات الفرنسية في حق من يطلبون اللجوء لبلادها
في العام الماضي 2019م قامت السلطات الفرنسية بإيقاف آلاف المهاجرين واللاجئين إليها من بينهم أطفال غير مصحوبين بذويهم، وتم إبعادهم إلى إيطاليا وإسبانيا.
وفي 2018 رفضت فرنسا طلبات لجوء مقدمة من أكثر من ألفي شخص من جنسيات مختلفة مما قد يعرضهم للترحيل إلى بلادهم، برغم الانتهاكات التي يمكن أن يتعرضوا لها عند عودتهم لبلادهم.
والأكثر من ذلك أن السلطات الفرنسية قامت باعتقال بعض الأفراد الذين قاموا بتقديم المساعدات الإنسانية لللاجئين والمهاجرين على مقربة من الحدود الفرنسية - الإيطالية.
8- قيام فرنسا ببيع أسلحة ومعدات للسعودية والإمارات ومصر وغيرهم لاستخدامها في الحروب وفي قمع المتظاهرين.
أثبتت العديد من الوثائق -التي قام صحفيون بنشر بعضها- أن الأسلحة التي قامت الحكومة الفرنسية ببيعها للسعودية والإمارات من المرجح أن تُستخدم ضد السكان المدنيين في اليمن، كما تستخدم لقمع المتظاهرين في مصر، وهذا يتعارض مع تصديق فرنسا على معاهدة تجارة الأسلحة عام 2014م التي ينبغي بموجبها عدم بيع أسلحة يستخدمها الطرف الآخر في ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي لحقوق الإنسان.
ذكرت صحيفة "موند أفريك" الفرنسية في يوليو 2018 قائلة: "فرنسا تشارك السلطات المصرية في قمع الحريات بمصر"، ونشرت صحيفة "موند أفريك" الفرنسية تقريراً سلطت فيه الضوء على مشاركة فرنسا في القمع الذي يُمارسه نظام السيسي في مصر، من خلال تزويده بأسلحة ومعدات مراقبة ضيقت الخناق على المواطنين.
وتطرقت الصحيفة إلى قيام كل من الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وغيرها من المراكز المهتمة بحقوق الإنسان بنشر تقرير حول مبيعات الأسلحة من فرنسا إلى مصر. وقد أدى هذا التقرير إلى إطلاق حملة فرنسية تحت شعار "لنصدر قيمنا، وليس أسلحتنا". ويحمل هذا التقرير عنوان "مصر، قمع صُنع في فرنسا".
ونقلت الصحيفة عن رئيس الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ديميتريس كريستوبولوس، أنه "في الوقت الذي أعلن فيه المجلس الأوروبي عن وقف صادرات المعدات العسكرية والمراقبة إلى مصر، تعبيراً عن رفضه للممارسات الديكتاتورية للنظام، فازت فرنسا بحصة هامة من سوق الأسلحة وحققت صادرات قياسية في هذا المجال".
ثانياً: ردود أفعال بعض الرموز داخل السلطة الفرنسية والمجتمع الفرنسي ضد الانتهاكات وتقييد الحريات.
- قالت النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي "مانون أوبري": "إن العلمانية ليست ذريعة ومبرراً لإثارة كراهية المسلمين في الصباح والظهيرة والمساء"،
- وقال الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي": "من غير الأخلاقي أن يستخدم السياسيون الإرهاب لمصلحتهم. هذه هي استراتيجية الهندوس القوميين الذين دأبوا منذ 10 سنوات على لصق تهمة الخيانة والإرهاب بكل من يدافع عن الأقلية المسلمة".
وأخيراً أقول
هذه هي فرنسا من الداخل، فالظاهر الخارجي ما هو إلا قشرة براقة ومخادعة لخطف الأبصار حتى لا ترى أكوام العفن الأخلاقي، والاستبداد الفكري، والانحطاط الثقافي، والمراهقة السياسية.