سورة الإنسان سورة تحكي قصة الإنسان، وكيف لا تكون كذلك وهي تجيب على الأسئلة التي حيّرت الإنسان منذ القدم، تلك الأسئلة هي: من أين أتيت؟ ولم خُلقت؟ وإلى أين المصير؟
فأوضحت السورة في بدايتها، أنّك خُلقتَ من نطفة أمشاج أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة، أو أخلاط في قبضةٍ من أرجاء الأرض خُلق منها أبوك آدم عليه السلام فجاءت ذرّيته منها الأبيض والأسمر، والسهل والعنيد، والنشيط والبليد، قال تعالى:" إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ".
وبعد أن بدأت قصة الإنسان في هذه الحياة، حدّدت السورة الهدف الذي خُلق لأجله، وهو الابتلاء والامتحان (نبتليه) ولم يتركك الله همْلا ولا عبثا في هذا الابتلاء، بل زوّدك بما يمكّنك من النجاح في اختبار الحياة وهي جوارحك التي تعقل بها كالسمع والبصر (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).
وأنت السيّد المختار أيها الإنسان، فأمامك طريقان لا ثالث لهما، طرق الايمان أو طريق الكفر(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وتأمّل كيف جعل الشكر في مقابل الكفر اعترافاً بفضل الخالق وامتنانا له بنعمة الخلق والهداية، فهو سبحانه وتعالى قد بيّن لك معالم طريق الهداية التي ستؤدي بك إلى النجاة في الدنيا والأخرة (إنا هديناه السّبيل) - وهذه هداية البيان- فأنزل الكتب وأرسل الرسل كما أشار في آخر السورة إلى هذا المعنى بقوله سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) وأخبرك أنّك ستواجه في هذا الطريق أعداء يحرفونك عن الجادّة ويجرّونك إلى الهاوية (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا).
وفي هذا الاستهلال البديع للسورة جاء قوله تعالى (إما شاكرا وإما كفورا) ليقسم الناس إلى فريقين، مؤمنون أو كافرون، شاكرون أو جاحدون، ولكي تقرّر في أي الفريقين تكون؟ شرعت السورة تعرض مصير كلٍّ من الفريقين في نهاية الطريق، فذكرت مصير المؤمنين ومصير الكافرين، ولعل تلحظ في السورة كيف فصّل سبحانه وتعالى في نعيم المؤمنين تفصيلا طويلا في حين أوجز في بيان عذاب الكافرين، ترغيبا منه تبارك وتعالى في رحمته، وطمعا في طلب هدايته، فلمّا تحدث عن مصير الكافرين قال (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) في حين لمّا وصف جنة المؤمنين ذكر شرابهم ولباسهم وخدمهم وجلوسهم على الأرائك، فأما شرابهم فتارة مزاجه الكافور وتارة الزنجبيل (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) وقوله (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلً) بل وصف آنية شربهم (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) ثم وصف جلوسهم على الأرائك ينعمون بأطيب الثمار تحت ظل الأشجار (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلً) وأمّا لباسهم فثيابٌ خضرٌ من حرير وحليّهم أساور الفضة (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) والولدان يطوفون حولهم ويسعون في خدمتهم (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) وبعد هذا كله القول الطيّب والثناء الجميل (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا).
ويأتي السؤال: بم استحق أولئك المؤمنون هذا النعيم المقيم والثواب الكريم؟
تذكر الآيات بعض صفاتهم، وهي لمن تأملها صفات تدلّ على انسانية عالية، ونفسيّة راقية، أخلاقٌ يجتمع عليها أصحاب الطبع الحسن والذوق السليم، فهم يحترمون كلمتهم ويوفون بنذورهم (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) ويشفقون على اليتيم والمسكين والأسير حتى لو كان عدوا ويقدّمون له الطعام والاحسان ولا ينتظرون من أحد جزاء ولا شكورا، إنما يبتغون بذلك وجه الله (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).
إن هذه الآيات بهذه الأخلاق الرائعة تقدّم للبشرية اليوم نموذجا راقياً من البشر، قلّ أن نجده اليوم في زحمة الحياة المادية، وفي صراع الطمع والجشع الذي يدوس فيه الإنسان على أخيه الإنسان من أجل مصالحه، فضلا عن أن يحترمه أو يقدّم له عوناً.
ألا ما أحوج البشرية اليوم إلى أخلاق هذا الدين العظيم !!!
ومن اللافت في السورة ربطُ مصير الفريقين مؤمنهم وكافرهم، بقضية الخوف من الله والخوف من الوقوف بين يديه في ذلك اليوم الآخر الذي سينتهي إليه كل الناس، فأما المؤمنون فكانون يخافون ذلك اليوم ويشفقون مما سيكون فيه من حساب و جزاء وقد عبّرت الآيات عن خوفهم هذا في موضعين الأول في قوله تعالى (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) والثاني قوله تعالى (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا).
فكيف كان جزاؤهم، لقد أبدل الله خوفهم أمنا ونعيما (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) لقد كان الجزاء ظاهرا وباطنا، سرورا يملأ نفوسهم وجمالا ونورا يعلو وجوههم.
أما الكافرون فلم يكونوا يحسبون لهذا اليوم حسابا، بل ألقوا الأخرة وراء ظهورهم، وآثروا الفانية على الباقية (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً).
وبعد هذا البيان الواضح للطريق وأهله ومصائرهم، تقدّم السورة الزاد الايماني للسائرين على طريق الهداية، كي يمضوا عليها ويتمسكوا بها، ويتمثّل هذا الزاد بالصبر على المعوقات في الطريق دون الالتفات لشياطين الانس والجن الذين يتربصون بك في جنباته (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ثم الأنس بذكر الله كي يسدّد خطاك على الطريق ويهوّن عليك وحشته (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلً) ثم عبادة الليل من سجود وتسبيح لتملأ النفس سكينة وطمأنينة وثقة بموعود الله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا).
وأخيرا يأتي ختام السورة ليؤكد على ما بدأته في أولها من انقسام الناس في طريق الحياة إلى كفر أو ايمان، وليترك لك حرية الاختيار في تقرير المصير (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
جعلنا الله وإياكم من المؤمنين المهتدين.... الفائزين بجنات النعيم.... اللهم آمين