مع الحلقة الجديدة من مسلسل التطبيع العربي المتواصل، والتي مثّلتها خطوة النظام المغربي؛ عادت ذات المقولات إلى التكرار بشأن مبررات التطبيع، أكان في سياقها المتعلق بالصفقة ذاتها، وهي الجزء الهامشي، أم في سياقها المتعلق بأصل الفعل.
في السياق الهامشي هناك مبررات كثيرة طرحت وتُطرح من قبل كل طرف مارس التطبيع، وبعضهم تورّط في التحالف مع الكيان الصهيوني، وليس التطبيع التقليدي بصيغته التي عرفناها سابقا في الحالة المصرية والأردنية، أو الصيغ التي رأيناها بعد اتفاق "أوسلو"، عام 1993.
والحال أن أيا من تلك المبررات لم يكن مقنعا بحال.
خذ مثلا الموقف من إيران الذي تم استخدامه كيافطة للتطبيع الإماراتي البحريني. هل كان مقنعا؟ أبدا، لأن موقف ترامب من إيران لم يكن ثمنا للتطبيع، بل هو هدية للكيان الصهيوني. ولو كان العرض معاكسا، أي التطبيع مقابل رفع العقوبات عن إيران، لكان الرد حاسما بالرفض، لأن هناك موقفا لا مساومة عليه يتعلق برفض المشروع النووي الإيراني، بل ومشروع الصواريخ الباليستية بعيدة المدى؛ والدقيقة منها على وجه التحديد، وهو بالمناسبة رفض ينسحب على أي دولة عربية تفكر بامتلاك هذا اللون من أدوات القوة، ولا ينحصر في إيران وحدها، كما ذكرنا هنا مرارا من قبل، حين ذكّرنا بما جرى للمشروع النووي العراقي، ولاحقا المشروع الكيماوي والصواريخ، بجانب المطاردة التي شملت كل مشاريع العرب على هذا الصعيد.
في حالة السودان مثلا، تم استخدام قضية رفعه من لائحة العقوبات كمبرر للتطبيع، فيما الحقيقة أن القرار لم يكن متعلقا بذلك، وإن كان جزءا من الصفقة، بل كان متعلقا بالاستجابة للدول التي وقفت بجانب المجموعة العسكرية التي انقلبت على البشير، وتفكر بتثبيت دكتاتورية عسكرية. والدول المذكورة هي التي ربطت مساعداتها بالتطبيع، فيما كانت قضية الخروج من أسر العقوبات والرفع من لائحة الإرهاب تحصيل حاصل على الأرجح، لأن هناك نظاما جديدا سيلبي كل الشروط المتعلقة بذلك دون تردد، بما فيها تسليم عمر البشير لمحكمة الجنايات الدولية، إذا تم الإصرار على ذلك.
يبقى المغرب، وهنا استخدمت قضية الموقف الأمريكي من صراع الصحراء كمبرر، فيما يعلم الجميع أن هذا الموقف لن يكون ملزما للأطراف الدولية الأخرى، بل ولا حتى للإدارات الأمريكية اللاحقة، وفي النتيجة لن يتغير شيء في منظومة الصراع برمته، والذي سيتواصل، لا سيما أن أمريكا لم تعد هي المتحكمة بالمشهد الدولي، بل تعيش صراعا في مواجهة قوىً مهمة كالصين وروسيا، ولا يمكنها بحال حسم الموقف من القضية وحدها.
أما في السياق العام لتبرير التطبيع، فقد استخدمت وما زالت تُستخدم مقولة إن الفلسطينيين مطبّعون، و"لن نكون ملكيين أكثر من الملك"، ولا يحق للشعب الفلسطيني أن يعترض، فيما قيادته تفعل ذلك، وساء الموقف أكثر بطبيعة الحالة بعد تراجع سلطة رام الله عن قرارها بوقف "التنسيق الأمني"، وإعادتها للسفيرين اللذين استدعتهما من المنامة ومن "أبو ظبي"، ما نسف كل الخطب التي ألقوها ضد خطوتي البلدين، والتي تتجاوز التطبيع إلى التحالف.
هنا لا بد من استعادة موجة التطبيع والهرولة السابقة إلى الكيان الصهيوني بعد "أوسلو"، والتي تورّطت فيها دول عربية وإسلامية عديدة.
ينبغي أن يدرك "الفتحاوية" أن جريمة قيادتهم بالتعاون الأمني مع العدو، وتكريس سلطة في خدمته تمثل الخطر الأكبر الذي يواجه القضية
وتنبغي استعادتها لتذكير كوادر "فتح"، بخاصة جيل الشباب الذي لم يشهد تلك الموجة التي حدثت ما بين اتفاق أوسلو عام 1993، واستمرت حتى انتفاضة الأقصى عام 2000، أي أن 20 عاما قد مرت عليها، ولن يعيها من هم دون الـ35 عاما، أي الغالبية من كوادر الحركة.
ما يجب أن يتم تذكير هؤلاء به هو أن ما نسف عمليا تلك الموجة من التطبيع، إنما كان الدم الفلسطيني الذي سال في انتفاضة الأقصى، وليس شيئا آخر، وقد شمل ذلك بجانب الدول العربية، دولا إسلامية وغير إسلامية تراجعت عن التطبيع. أما الأهم الذي يجب أن يعرفوه فيتمثل في أن الوحيد الذي وقف ضد تلك الانتفاضة من قيادات "فتح" هو الرئيس الذي يهتفون له اليوم، والذي أصبح له كتاب عظيم يتحدث عن إنجازاته، و"أوبريت" أيضا، وهو ذاته من استخدمه الغرب ضد ياسر عرفات (رحمه الله)، والذي يتغنّون به بوصفه الرمز التاريخي، وهو ذاته (عباس طبعا)، من كان عرفات يسميه "كرزاي فلسطين"، وقد شاركه في تلك المواقف شخص آخر يتم الهتاف له في قطاع غزة، وبعض مناطق الضفة، اسمه محمد دحلان، أي أنهما فرسا رهان فتح بعد عرفات، ولم تفرّق بينهما المواقف من الصراع، بل الخلافات الشخصية.
هنا ينبغي أن يدرك "الفتحاوية" أن جريمة قيادتهم بالتعاون الأمني مع العدو، وتكريس سلطة في خدمته تمثل الخطر الأكبر الذي يواجه القضية، بجانب التطبيع، وذلك عبر الحل الإقليمي الذي يعني تطبيعا واسع النطاق يحوّل الموقت إلى دائم والصراع إلى مجرد نزاع، ما يعني أنهم شركاء في الجريمة حين يهتفون لهكذا قيادة ويمنحونها الشرعية.
الجزء الثاني الذي نحن بصدده يتعلق بأنصار ومروّجي التطبيع من العرب، والذين تفضحهم الحقائق على الأرض؛ مما ذكرنا آنفا في المبررات الهامشية لما فعلوا، بجانب التبرير المتعلق بمواقف السلطة.
لا يتعلق الأمر بحقيقة أن أيا من تلك الحالات التطبيعية القديمة لم يبلغ مستوى التحالف الذي نشهده الآن في الحالة الإماراتية والبحرينية، وقد يتكرر في الحالة المغربية، وربما السودانية إذا ما تواصلت مسيرة البؤس الراهن للنظام العسكري القائم، وقد تتبعها حالات أخرى لاحقا، بل أيضا بالتبرير المتعلق بالسلطة الفلسطينية، وقبلها وبعدها بالحالة المصرية والأردنية.
في الحالة الفلسطينية، كان الأمر في جذوره متعلقا باتفاق كان ينبغي أن يصل إلى دولة، ولم يصل، لكن هذا الجزء يبقى محقا بعض الشيء، لأن عباس أعاد المسلسل إلى جذوره بعد أن افتضح كل شيء، وذلك لأن خياراته بائسة وعاجزة، لكن ذلك لا ينفي أن الجزء الأهم والأكبر من الشعب الفلسطيني ضد التطبيع، ويكفي أن نذكّرهم بأن حماس هي من فاز في انتخابات 2006، وبغياب حركة الجهاد، ما يعني أننا لو أضفنا الأخيرة، فستكون الغالبية من الشعب مع خيار المقاومة، وضد عبث عباس، ولا يمكن أخذ الغالبية بجريرة الأقلية، حتى لو كانت الأخيرة هي المعترف بها عربيا ودوليا.
أما الأهم من ذلك، فيتمثل في مواقف الدول العربية المهمة من موجة التطبيع السابقة بعد "أوسلو"، مقارنة بالمواقف الحالية. ففي منتصف التسعينات عُقدت قمة الإسكندرية بحضور مصر والسعودية وسوريا، كمقدمة لمواجهة الهرولة نحو الكيان. ولنا أن نقارن مواقف عمرو موسى كأمين عام للجامعة العربية من التطبيع، بمواقف "أبو الغيط" راهنا، فضلا عن مواقف الدول الثلاث إياها من التطبيع، بخاصة مصر، ولا حاجة للحديث عن غياب التطبيع الشعبي في الحالتين المصرية والأردنية بعد عقود من المعاهدتين، قياسا بالزفّة التي نتابعها حاليا، وكل ذلك في شهور قليلة لا أكثر.
المسؤولية اليوم أكبر بكثير، وتفجير الانتفاضة الشاملة هو الحل الوحيد
نحن إذن إزاء حالة من التردي غير المسبوق في المشهد الفلسطيني، ويتحمل كوادر فتح (لا أمل في القيادة) المسؤولية عنها، وحالة مماثلة من التردي في المواقف الرسمية العربية، بخاصة الرئيسة منها، والتي تدرك مخاطر هذه الموجة من الهرولة، حتى على أمنها القومي، كما في الحالة المصرية والأردنية، وحيث يبشّر نتنياهو بالهيمنة على المنطقة برمتها.
لن يكنس هذه الحالة من التردي والبؤس سوى الدم الفلسطيني، تماما كما فعل من قبل عبر انتفاضة الأقصى التي كانت ثورة ضد سلطة فاسدة وبائسة، وضد الاحتلال في آن، فيما تتجاوز السلطة الحالية الفساد، إلى تسهيل تصفية القضية، حتى لو مارس رموزها الخطابة، فيما هم ينتظرون بطاقات الـ"في آي بي" من عدوهم.
المسؤولية اليوم أكبر بكثير، وتفجير الانتفاضة الشاملة هو الحل الوحيد (مسؤولية الفصائل الأخرى كبيرة هنا)، بجانب إحياء لجان مقاومة التطبيع في كل الفضاء العربي والإسلامي، رغم ما تعانيه الحركات الإسلامية من أوضاع صعبة بسبب هجوم الثورة المضادة عليها.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- عربي 21