مع قرب نهاية عهدته الرئاسية؛ قام الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب بمساعٍ محمومةٍ لتحقيق الكثير من المكاسب للكيان الصهيوني، فكانت اتفاقيات التطبيع بين الكيان وبين أربعٍ من الدول العربية دفعةً واحدةً، هي الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، والتي عُرِفَتْ باسم "اتفاقيات أبراهام".
كانت هذه التحرُّكات، هي الأوسع في تاريخ التطبيع والاعتراف بالكيان الصهيوني من جانب الدول العربية منذ بدء عملية التسوية بين مصر والكيان في عهد الرئيس الأسبق الراحل، أنور السادات في نهايات السبعينيات الماضية.
وتتجاوز مخاطر هذه الاتفاقيات محتواها المباشر، وحتى نقطة ارتباطها بأربعة دول عربية دفعةً واحدةً؛ حيث إنَّها مسَّت بعض الأمور المتعلقة بتوازنات القوى في المنطقة، ورأت حتى دولٌ مثل تركيا لها مواقفها الرسمية المعلنة الداعمة للفلسطينيين، أنَّه من الضروري لمصالحها، أنْ تكون جزءًا من هذا الحِراك.
فكانت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان عن التعاون الاستخباري "الذي لم يتوقف مع إسرائيل"، و"تطلعه إلى علاقات أفضل" مع الدولة العبرية.
وبالرغم من ربطه لذلك بتحقيق مصالح فلسطينية، إلا أنَّه في النهاية، لا يخلو توقيت تصريحاته هذه، في نهاية ديسمبر الماضي، من دلالاتٍ في صدد أثر "اتفاقيات أبراهام" في إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
ولقد كان هناك تعويلٌ فلسطيني على أنَّ الرئيس الأمريكي الجديد، جوزيف بايدن، سوف يعمل بصورةٍ مغايرةٍ لسياسات ترامب في الملف الفلسطيني، ضمن مراجعات لكامل قرارات وسياسات ترامب في مختلف الاتجاهات، بالذات التي أخذها في الأشهر الأخيرة من إدارته.
وهذا حدث جزئيًّا بالفعل؛ حيث إنَّ إدارة بايدن أكَّدت على أنَّ سياساتها في الملف الفلسطيني سوف تُبنَى على حلِّ الدولتَيْن، وعن "نيَّتِها" إعادة فتح ممثِّلِيَّة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، واستئناف تقديم المساعدات الأمريكية السنوية للسلطة الفلسطينية؛ إلا أنَّ إدارة بايدن أكدت على التزامها بالتعامُل وفق "اتفاقيات أبراهام" هذه، وعدم التراجُع عن قرار نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان من تل أبيب إلى القدس.
وكان ترامب قد ربط هذه الاتفاقيات بعددٍ من المغانم لحكومات الدول العربية الأربع المعنية بها، مثل الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، ورفع اسم السودان من قوائم الإرهاب الأمريكية وتقديم المزيد من المساعدات للاقتصاد السوداني المتهالك.
لا أحد يعلم ما الذي قدَّمه ترامب للبحرين، ولكن الثمن في حالة الإمارات، كان صفقة ضخمة من المقاتلات الـ"إف. 35" المتطورة وطائرات بدون طيار.
وهنا ينبغي الوقوف عند بيان الخارجية الأمريكية بتعليق الصفقة ضمن صفقات سلاح للسعودية والإمارات، لحين مراجعتها، من أجل توضيحٍ مهمٍّ.
الموقف الأمريكي في هذا الصدد لا يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولا يتعلق بـ"اتفاقيات أبراهام"، وإنما بالحرب في اليمن في ظل ازدياد الحالة الإنسانية هناك، سوءًا على سوءٍ، وارتبط ذلك في هذا الإطار بقرار آخر للخارجية الأمريكية، وهو تعليق العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على حركة "أنصار الله" الحوثية في أواخر أيام ترامب، حتى – التعليق – شهر فبراير المقبل، وتقييم أثر هذه العقوبات، استجابة لدعوات منظمات الإغاثة في اليمن، بسبب تقييد العقوبات الأمريكية ليدها في العمل الإنساني على الأرض.
ووفق الكثير من التقارير الإعلامية والتغريدات الرسمية الإماراتية والأمريكية على حدٍ سواء؛ فإنَّ الصفقة في الغالب سوف تتم، وما جرى هو فقط لإعادة التقييم.
وبطبيعة الحال؛ فإنَّ حكومة بنيامين نتنياهو لم تتأخَّر في التحرُّك لحماية مكتسباتها من هذه الاتفاقيات؛ حيث قال نتنياهو إنَّ القرار الأمريكي لن يمسَّ ما تم التوصُّل إليه من اتفاقيات تعاون مع الإمارات، و"اتفاقيات أبراهام" بشكل عام؛ لأنَّها لم تُبنى – بحسب قول نتنياهو – على أساس أمريكي صِرف، وإنما هي اتفاقيات موقعة بين الكيان الصهيوني وبين هذه الدول الأربع، وعلى أساس مبدأ "السلام مقابل السلام"، وبالتالي؛ فإنَّها مِن أعمال السيادة، ولا يوجد ما يمكن لإدارة بايدن اتخاذه لتعطيلها بشكلٍ مباشرٍ.
وبالفعل؛ فإنَّ هناك الكثير من الخطوات التي تم اتخاذها لتطبيق هذه الاتفاقيات على أرض الواقع، مثل وصول أول سفير للكيان الصهيوني إلى المغرب، وتبادل افتتاح السفارات بين أبوظبي وتل أبيب، وتفعيل اتفاقيات التعاون في مجالات التعليم والتجارة وغير ذلك، بشكلٍ حتى لاقى انتقادات شبه رسمية في الإمارات، مثلما فعلت قرينة حاكم الشارقة، الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، فيما يخص التطبيع في المجال التعليمي.
وهنا لابد أنْ نشيرَ إلى نقطة مهمة. ليس لدى الدول العربية الأربع أيُّ شيءٍ يمكنها أنْ تفعله لو تراجع الأمريكيون عن وعودهم لحكوماتها، من أجل جلبها إلى مربع "السلام مقابل السلام" هذا، باستثناء السودان.
فالكيان الصهيوني له مصالح أمنية استراتيجية أصيلة يمكن للسودان المساومة بها لو أرادت، وهذه المصالح تاريخية؛ حيث هي موضوعة على أجندة الأمن القومي الصهيوني منذ نشأة الدولة العبرية، فالسودان هو خانق حزام الأمن القومي المصري والعربي الجنوبي، والأهم كذلك.
ولهذا كان للكيان الصهيوني وأجهزته، دورٌ كبيرٌ في الحرب الأهلية السودانية، ودعم انفصال جنوب السودان بكل السُّبُل، بما فيها المساعدات العسكرية.
أضِف إلى ذلك، أنَّ الأمن القومي الصهيوني مرتبط بشكلٍ مباشر بوجود حركة "حماس" وحركات إسلامية أخرى تعادي الكيان الصهيوني، ظلَّت السودان لسنواتٍ طويلةٍ مرتكزًا لها، ولعمليات تهريب السلاح إلى المقاومة في قطاع غزة.
ولذلك يمكن فهم الزيارة المفاجئة التي قام بها مدير "الموساد" الصهيوني، يوسي كوهين، إلى السودان قبل أيامٍ، بعد سلسلة قرارات وتحرُّكات إدارة بايدن هذه.
وبطبيعة الحال، سوف تتحرَّك الدوائر الصهيونية في الولايات المتحدة للضغط على بايدن وإدارته مِن أجل تمرير ما توقَّف مع الإمارات، والالتزام بشكل عامٍ بتعهدات الإدارة الأمريكية السابقة مع الدول الأربع في ظل وجود مصالح مهمة للكيان الصهيوني في عدم تعطيل "اتفاقيات أبراهام"، لأنَّ ذلك من شأنه إعطاء انطباعٍ سلبيٍّ لحكومات الدول المرشحة للانضمام إلى ركب التطبيع، وبالتالي؛ تتعطَّل الأمور.
كل هذا واضح، ويتفاعل، ويشهد جديدًا في كُلِّ يومٍ، إلا أنَّنا لا نكاد نجدُ أي ردَّة فعلٍ فلسطينيةٍ واضحةٍ، وحتى الانتخابات التي أعلنت عنها السلطة الفلسطينية بشكل مفاجئٍ، والمقررة في صيف العام الحالي؛ لا يبدو أنَّها سوف تتم؛ حيث ظهرت الكثير من العراقيل أمامها، مما استوجب جولة حوارات جديدة بين الأطراف الفلسطينية في القاهرة.
والتقارير تشير إلى أنَّ "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" ربما لن تشارك فيها، في ظل ربطها لهذا الملف بما يجري على المحور الإيراني الأمريكي!
لا أحد يمكنه تصوُّر وجود هذه الحالة من التآكُل للحقوق الفلسطينية مِن دون أنْ يكون هناك ما يمكن أنْ يلزمَ الدول العربية بأخذِ موقف، لأنَّ قدرة التحرُّك الفلسطينية على الجانب الصهيوني؛ صفر تقريبًا، لأنَّ الخيار العسكري خارج إطار قدرة الاستطاعة الآن بالنسبة لفصائل المقاومة الفلسطينية لأسباب سياسية واقتصادية.
ولأنَّ كذلك الخيار العسكري حاضرٌ فورًا على طاولة الحكومة الصهيونية، وهددت به رئاسة الأركان في جيش الاحتلال بالفعل، على الجبهتَيْن اللبنانية وفي قطاع غزة، لأنَّها تعلم الارتباط العضوي القائم بين فصائل المقاومة الفلسطينية وبين الموضوع الإيراني الذي يجد أصداءه في سوريا ولبنان.
ولا أحد يعتقد أنَّ إدارة بايدن سوف تأخذ المزيد من الإجراءات للوراء في الفترة المقبلة، بعد أنْ استوعبت الحكومة الصهيونية الموقف، وبدأت بالفعل في الإيعاز إلى الدوائر الصهيونية في واشنطن لوقف هذه الارتكاسات حتى ولو كانت غير فعالة.
السؤال المهم هو الآن؛ ما العمل؟!.. الخيار الوحيد المقبول الآن، والمتاح، هو المقاومة الشعبية بمختلف صورها، وهو خيارٌ مطروح منذ فترة؛ عندما بدأ ترامب في سلسلةٍ من الإجراءات المتعلقة بنقل السفارة والتطبيع، ولا أحد يدري لماذا لم يتم تفعيله.
المسار الثاني للتحرُّك، هو البناء على مواقف بعض الأطراف الرسمية وشبه الرسمية العربية الرافضة للتطبيع.
ونعود هنا إلى موقف قرينة حاكم الشارقة، الشيخ سلطان القاسمي، الذي يُقال أيضًا إنَّه له موقفه الرافض لسياسات بلاده في هذا الصدد.
الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، قالت صراحةً في تغريدة لها على موقع "تويتر"، على لقاء افتراضي بين وزارتَيْ التربية والتعليم الإماراتية والصهيونية، لبحث التعاون والتبادل الطلابي والدراسات الأكاديمية المشتركة: "مناهجهم توصي بقتل العربي واغتصاب أرض العربي".
موقفها هذا، هناك الكثيرون في دولنا العربية يكررونه ويتبنَّونه، ولا أحد يدري أيضًا لماذا لا يوجد هناك أيُّ حِراكٍ دبلوماسي وإعلامي فلسطيني فعَّال، سواء من جانب السلطة أو من جانب الفصائل الفلسطينية، للضغط من أجل خلق جبهة متماسكة موحَّدة مع هذه الأطراف التي لا تزال تملك إرادتها!